أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - وسائط إعلامية - مقالات مكتوبة - التحيز الداخلي في تدريس العلوم الإسلامية وأثره على التحصين الفكري والعقدي

مقالات مكتوبة

السبت 25 سبتمبر 2010

التحيز الداخلي في تدريس العلوم الإسلامية وأثره على التحصين الفكري والعقدي

د. مصطفى بن ناصر وينتن

يثير البحث في مناهج التدريس عموما وتدريس العلوم الإسلامية بخاصة الكثير من القضايا ذات الأهمية البالغة، ومنها إشكال السلوك الذي يصدر أحيانا من قبل المدرس، مما يؤثر مباشرة على المتلقي، وعلى المجتمع.فإن بعض التصرفات والممارسات والمواقف التي يبديها الأستاذ لا تكون مرفوضة بسبب آثارها السلبية فحسب؛

 بل إنها تتعدى هذا إلى كونها مناقضة للأهداف العلمية والتربوية التي يؤسس عليها تدريس هذه العلوم، ومن هذا القبيل ممارسة التحيز غير المبرر وغير المقبول، ومنه التحيز الداخلي، مخالف لأهم أهداف التدريس التي منها: «تأسيس العقلية العلمية والتفكير الواقعي للدارسين وغرس المنهج الفكري والإسهام في إيجاد وتنمية الفكر الإبداعي والوسطي المعتدل، وغرس الابتعاد عن الغلو والتعصب» (1).

ومن هذه الممارسات نذكر النماذج الواقعية الآتية:
1 ـ ذكر لنا الأستاذ وهو يعلمنا مصطلح الحديث بالمعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر (كلية العلوم الإسلامية حاليا) أن التقارب أو الوحدة في الجزائر مستحيلة لأن الاختلاف كبير بين المذهبين الإباضي والمالكي وبعيد ويتعلق بالأصول.
2 ـ أستاذ من بلد شقيق درسنا أحاديث الأحكام في الطهارة ونسب إلى الإباضية أنهم يرون اليد تمتد إلى الكتف فهم بذلك يقطعونها في السرقة من الكتف، وجزم بأنه أعلم بالإباضية من طالبه الإباضي، وأراد أن يلزمه هذه النسبة عنوة، وهذا بعد أن بحث إن كان في المدرج أحد من الإباضية.
3 ـ أمثلة كثيرة من الطلبة عندما نحاول معهم أن يتخذوا موقفا، ويبدوا رأيهم فيمتنعون مخافة أن يتابعوا بسبب رأيهم، لأنهم عاشوا إشكالات من أساتذة رفضوا رأي الطالب لأنه خالف رأيهم، وربما جنى عليهم ذلك في درجات امتحاناتهم.
4 ـ الصورة القاتمة التي يقدمها الإعلام عن تدريس العلوم الإسلامية في العراق الجريح، إذ جاء في مقال صحفي ما يأتي: «أشار تقرير صحفي دولي إلى مشكلة المناهج الدراسية في العراق واتّسامها بـالتحيّز الطائفي بحسب رأي منتقديها، ويقول البعض إنها تؤسس لنزاعات مستقبلية ويشبهونها بـ"طبخ الطائفية المتشدّدة على نار هادئة."... فيما يرى مؤيدو المناهج الحالية، أنها تعكس بدقة هوية العراق، وهي تصحيح لـتحيّز سُنّي في التعليم الديني سابقاً.....
ويعترف وكيل وزارة التربية نهاد الجبوري بأن التغيرات التي طرأت على منهج التربية الدينية في المدارس الابتدائية انطوت على إشارات طائفية ما يجعلها مصدر قلق بحسب وكيل الوزارة نهاد الجبوري.....».
ويخلص المقال الصحفي إلى هذه الصورة للطالبين أحمد وزهير: «اللذان يرتبطان بصداقة وزمالة بعضهما ويشتركان في جولة الذهاب والإياب من البيت إلى المدرسة في منطقتهما، لكن ذويهما لا يشتركون بـدين واحد ، فعائلة زهير مسيحية، بينما عائلة أحمد مسلمة. لكنّ المشكلة هي أنّ الدروس الدينية في الفترة الأخيرة، تركت عليهما آثارها، فأحمد يتساءل: (عندما أدرس أننا يجب أنْ نقاتل الكفار باسم الجهاد، أفكر مع نفسي: هل سأقتل زهيراً ذات يوم؟... فمعلمنا يخبرنا أن الإسلام يحرّم علينا إقامة صداقات مع الكافرين»(2).

ومن هنا نستشعر أن أمانة التعليم جليلة وخطيرة في كل التخصصات؛ لما لها من دور في صناعة الأجيال، وإعداد الشخصية وبناء هوية الإنسان، ولأن على التعليم أن يستجيب لمتطلبات كل أمة في تخطيطها، ويعمل على تحقيق تطلعاتها ونظرتها المستقبلية، وقد تتنامى الأهمية وتعظم حسب نوع الدراسة والتخصص والتكوين الذي يقدم إلى الطالب.

ويعظم الأمر في العلوم الإنسانية لأنها تدرس الأفكار وتبني التوجهات الإيديولوجية الفكرية للمتلقي والدارس، ومن تم يكون الأثر على المجتمع وعلى الوطن سريعا، مما يستدعي ضرورة الاهتمام بالتعليم وببرامجه ومحتوياته في كل المستويات التعليمية.
وكلما ضاقت الدائرة واتجهنا إلى التخصص الدقيق اتضح الأمر أكثر، وكلما تناولنا علما أقرب إلى المجتمع وإلى الاختيارات والنماذج السلوكية كلما تبين أن الموضوع أخطر ويجب الاهتمام به أكثر من غيره.
من هذا المنطلق كان لتدريس العلوم الإسلامية الشرعية أهميته من حيث الوجوب ومن حيث البناء والنسق والسياق الذي ينبغي أن تدرس ضمنه، باعتبار أن هذا التخصص شديد الحساسية والارتباط بالسلوك البشري، ونتائجه لا تخفى في صناعة الشخصية وصبغتها وصيانتها من بعد ذلك.
فينبغي بحث كل طرف وما له من دور في منظومة التدريس، ذلك أن الواقع الذي يعيشه المجتمع تطبيق وتجسيد لما يتم عرضه في هذا التخصص، وبخاصة الجانب العقدي والفكري منه.

هذه الأبعاد تفرض النظر المتأني والجاد في كل الجوانب المعنية بالعملية التعليمية، ومنها بالخصوص: المضمون والتأطير، ثم المتلقِّي.
والجانب الأكثر أهمية دراسة مدى قرب المؤطر والمضمون الذي يقدمه من اختيارات الأمة التي تتلقى التعليم، وتهيكل على أساسه كل حياتها الدنيا وعلاقاتها ومستقبلها.
ولا يمكن الوفاء بالموضوع في بحث واحد، لأن جوانب الممارسة البيداغوجية متعددة، ونقتصر على مدى تدخل شخصية المدرس في تقديم المادة العلمية من حيث تحيزه وعدم تحيزه للقضايا التي يتناولها أثناء تدريسه، وتعامله مع الطلبة الذين يعلمهم ويدربهم؛ إن كان يحقق التوازن والوسطية، أو هو على النقيض يميل ويفرض على طلبته تحيزا لنموذج على حساب آخر.
ولدراسة التحيز في طرق التدريس، والتحيز خصوصا في الولاء للنماذج المعرفية المتوارثة عبر الزمن في البيئة الإسلامية أهميته لأن الأستاذ هو الذي يباشر العمل التربوي ويتولاه ويتعهد الطالب ويصنعه على عينه، ولذا يفترض فيه من الشروط والصفات ما لا يفترض في غيره من الأطراف مع أن لكلٍّ ميزات يجب عليه العمل على توفيرها.
ذلك أن خطأ الأستاذ جسيم، وضُعفه ولو عن غير قصد عصيب تحمله لأنه يتعداه إلى غيره في حق أشخاص على مدى الزمن:
خطأ الأستاذ ×خطأ عدد طلبته=خطأ الطلبة×عدد من يعلمونهم من بعد×عدد سنين عبر الزمان...= أخطار متراكمة=قنبلة موقوتة، وفي كل الحالات هي سريعة الاشتعال بأدنى سبب......

وهكذا تتضح خطورة الخلل المرتكب في حق الأمة وكيف تنتقل العدوى ويستمر الخلل على مدى الزمن، حتى يصبح الخطأ صوابا مؤصلا ومؤسسا.

ويصدق حينها قول الشاعر:
وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة     جاءت على يده البصائر حولا
فالتفكير السديد يعمل على الإنقاص من هذه الأضرار؛ لأن خلو التعليم منها أمر غير ميسور ولا مطلوب، ولكن المطلوب ألا يكون الخطأ هو السائد، ولا هو الغالب، حتى يكون من الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
وفي هذه الدراسة نركز على أثر تحيز الأستاذ أثناء تدريسه في العلوم الإسلامية، وباعتبار إسلامه فهو ينتمي بالضرورة إلى إحدى المدارس الإسلامية في التفكير أو الفقه والسلوك، وبالتبع يتخذ مواقف بما لديه من قناعات بها يحكم على القناعات الأخرى وعلى آراء المدارس الأخرى، وهنا يظهر مدى تأثيره من عدمه.

ـ فمتى يكون انتماء الأستاذ مؤثرا على طلبته؟
ـ ما أثر هذا التحيز إلى الانتماء على نفسية الطالب؟
ـ ما أثره على التحصين الفكري والعقدي على الأمة؟
ـ ما ظله على الحياة الفكرية والاجتماعية للأمة؟

وتعرض لنا في تناول الموضوع إشكالات من حيث:
ـ إن التحيز ضرورة من أجل الإخلاص في الأداء وفق عقود مبرمة بين المؤطر والمؤطَّرين في التدريس.
ـ إنه من الضروري الابتعاد عن التحيز بغية تحقيق أكبر قدر من الإنصاف والموضوعية للوصول إلى مقاربة الصواب في القضايا التي اختلف فيها العلماء وما زالوا (3).

فهما إشكالان لا يمكن تجاوزهما، ولكن ينبغي السعي إلى الوقوف موقفا وسطا، وسطية لا تكون من قبيل الجنوح إلى الحل الأسهل، ولكن وسطية العدل والتوازن، وتحقيق المقصد الشرعي قدر المستطاع.

ولتيسير الوصول إلى نتيجة في الموضوع نرى إليه من خلال الآتي:
1. ضبط المفهوم
2. تدريس العلوم الإسلامية في الجزائر
3. الطلبة المتلقون للتدريس
4. الأساتذة المؤطِّرون في كليات العلوم الإسلامية
5. أثر التحيز في التدريس على التحصين الفكري والعقدي
6. كيفية معالجة الموضوع في سبيل الحصول على الإيجابيات وتقليل الأضرار.

1 ـ ضبط المفهوم
:
نستعمل هذا المصطلح (التحيز الداخلي) للدلالة على موقف الأستاذ المدرس من الآراء الواردة في المادة التي يدرسها، أو التحيز داخل التحيز أو التحيز الضمني، كما يصفه الدكتور عبد الوهاب المسيري؛ ذلك أن العلوم الإسلامية في ذاتها ينبغي أن يكون فيها تحيز وإن كان من النوع المقبول، باعتبار أن التحيز في أساسه مواقف مؤسسة على خلفية فكرية، ولا يمكن أن يتجرد الدارس من الموقف كلية، ولكن يُرى إلى طريقة التعامل معه ومع مخالفه.
والتحيز الذي نعنيه في التدريس هو التحيز ضمن تحيز أو داخله، وهو التحيز في إطار المنظومة الواحدة، أو الميدان الواحد، كالتحيز الجزئي في الغرب، أو الشرق، وكالتحيز لمدرسة دون أخرى في العلم الواحد، أو التوجه الفقهي بين المدارس الفقهية (4).
ومادام للأستاذ مذهبه في إطار منظومة المذاهب الإسلامية، فقد تحيز إلى النموذج الفكري الإسلامي، وعلى أساسه يبني قناعاته، ويتخذ مواقفه، ثم داخل هذا النسق يتخذ تحيزا آخر وهو انتماؤه إلى مذهبه من دون مذهب آخر غيره، فهو قد اختار أن يرى إلى القضايا من زاوية هذا المذهب أو أن يفسرها كذلك.
وينتج عن هذا أنه يمارس تحيزا داخليا ضمنيا، يمكن أن يغلب فيه نظرته المذهبية على غيرها، فيقدم أحكاما ويقيم المواقف الأخرى المخالفة، وهذا من شأنه أن ينتج آثارا على المتلقي سواء كانت موافقة لقناعة المدرس نفسها أو كانت مخالفا له، أو موافقة للمذهب الذي هو موضوع البحث والحديث أو مخالفة له.
ولا يتوقف الأمر في هذا المستوى لأنه يتعداه إلى منهج تقديم الأستاذ لآراء غيره، وطريقة تعامله معه وما يقدمه في حقه من إنصاف أو إجحاف.

والعلوم الإسلامية معرضة بالضرورة إلى اتباع التحيز العام لأنها منظومة مستقلة لها أصولها وضوابطها، وتاريخها وتراثها الخاص بها، ثم ضمنيا في هذه المنظومة، وبسبب ثرائها وتنوع الرؤى فيها وعدم حجرها على الفكر البشري؛ فهي معرضة للتحيز الداخلي من خلال اشتمالها على هذا التعدد المذهبي، والتنوع الفكري.
وفي كل صقع من أصقاع الإسلام وفي كل عصر نجد هذا التنوع المتيحَ للتحيزات أمرا طبيعيا، بل مستساغا استطاع الفكر الإسلامي أن يحتويَه، ويتعامل معه بل أسس له منهجه وقعد له أصوله وضوابطه وهو فن يتعلم بفضله كيف يتعامل المتحيزون مع موضوعاتهم ومع مخالفيهم، وسمي بأسماء منها: الجدل ومعرفة آداب المناظرة(5).....
وأكثر ما يمارس هذا التحيز في مجاله الطبيعي وهو حلقات الدروس والمدارس ومجالس العلماء، وكذا لدى مجالس الحكام والسلاطين.

2ـ  وضعية تدريس العلوم الإسلامية في الجزائر
إن تدريس العلم الشرعي في الجزائر ليس حديثا ولا جديدا، بل هو قديم قدم الوجود الإسلامي منذ القرن الأول، وإن كانت الصور والأشكال والمناهج والمضامين تختلف باختلاف المناطق والأزمنة، فإن المدارس في التاريخ كثيرة؛ وأنى اتجهنا من شرق الجزائر إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، فإننا نجد المدارس المتعددة التي يقصدها الطلبة؛ وحلق الدرس التي يجلسون إليها في مسجد أو زاوية أو دار؛ بداية من الفتح الإسلامي والعهد الرستمي، ومرورا بالدول الإسلامية التي تعاقبت على هذه الأرض الطيبة، فلم يخل زمان من التدريس؛ والتاريخ الحضاري شاهد على ذلك، وهل كان أغلب ما دوِّن من التاريخ إلاَّ تسجيل للمظهر الحضاري لدور التعليم والتدريس؟(6)
واتخذ تاريخ هذا التعليم صورة الوفاء المذهبي في أغلبه، فقد تكفل كل مذهب وكل نظام حكم بالإنفاق على التعليم المساير لمذهبه، أو سمح بوجود غيره تحت سلطته وحكمه، فعرفنا مدارس الإباضية في مواطن عمارتهم ابتداء من تيهرت مرورا بالأوراس ووادي ريغ ووارجلان ووادي ميزاب، سواء تحت سلطة الدولة الرستمية أو بعدها في ظل نظام العزابة.
ومدارس الأشاعرة في مختلف المدن والحواضر من الشرق إلى الغرب ومن العاصمة إلى الجنوب الواسع.
كما كان للشيعة وجودهم أيضا على العهد الفاطمي؛ وللحنفية أثناء العهد العثماني.
وكان هذا التنوع سببا في التلاقي وفي تمازج الأفكار وكذا الحوار والمناظرات بين الإباضية والأشاعرة خاصة.
والواقع أن الحوار الأشعري الإباضي انتهى في جانبه العقدي والفقهي إلى تقارب واضح، وجسدته المناظرات والكتب التي عنيت بفقه الاختلاف؛ وشكل مادة دراسية وبحثية ومجال أسئلة وردود على مر الزمن.
فقد كان التدريس ملتزما بتحيز داخلي، ولم يكن يثير الإشكال لأن البيئات التي كان يقدم فيها غالبا بيئات متجانسة، بل إن العقد بين أطراف العمل التربوي مؤسس على شرط التدريس وفق أحد هذه المذاهب؛ ويدل على هذا ويؤيده وجود منظومة الأوقاف التي تسمى باسم أتباع المذاهب من إباضية ومالكية وحنفية... وتُصرف إيراداتها في إطار أتباع هذا المذهب أو ذاك.
وبتقدم العصور وتغير المعطيات عاشت الجزائر العهد الاستعماري، وكان وجود العدو الصريح للمجتمع سببا في ظهور تقارب أكثر بين الإباضية والمالكية خاصة، وشهدنا تلاقيا متعدد المظاهر خاصة في الجانب التعليمي، فرأينا أبناء كل مذهب يستفيدون من التعليم من المذهب الآخر، ففتح الإباضية مدارسهم للمالكية، وتتلمذ الإباضية على أيدي أساتذة لهم من المالكية وهكذا... فهذا أبو إسحاق إبراهيم اطفيش الذي تتلمذ على يد الشيخ عبد القادر المجاوي(7)؛ وعرف تاريخ الجزائر نماذج من المدارس القرآنية تأسست بالاشتراك بين أبناء المذهبين مثل المدرسة القرآنية بتبسة، ومدارس تفتح أبوابها دون تمييز مثل مدرسة التوفيق بالعاصمة، والاستقامة بمدينة قالمة، ومعهد الحياة بالقرارة، وغيرها، حتى شهد بهذا غير المسلمين ممن رصدوا هذه الجهود، وسجلوا هذه الخطوات، فهذا بساح شنار يقول عن التقارب بين المذهبين: «لقد تركز طابع الصداقة بين الإباضية والسلفية (يقصد حركة جمعية العلماء) عندما زار ابن باديس غليزان وهو في جولته الدعائية في صيف 1932، فإن الجالية الإباضية يتقدمها البيوض والأعضاء الإباضيون لمجلس المدينة كلهم تجمعوا في المدرسة الإباضية للترحيب بالزائر» (8).
وكان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين جهد فعال وكبير في تثمين هذا المنحى وترسيخه وتوسيع دائرة نشاط المدارس الجزائرية الثنائية المذهب.
والجدير بالملاحظة أن هذا الوضع من تمازج المذهبين لم يكن يوما سببا لنشوء مؤثرات سلبية وآثار سيئة على المجتمع، بل كان على العكس وجها من تجسيد الوحدة وترسيخها، مما يثير البحث في هذه القيمة الحضارية: كيف تم الحصول عليها؟ وهل يمكن الاستفادة من هذه التجربة وتكرارها؟
وبحصول الجزائر على الاستقلال تبدل وضع المدارس ومؤسسات التعليم الشرعي، حيث استمرت المدارس القرآنية الإباضية، واستحدثت مدارس التعليم الأصلي إلى حين، إضافة إلى استمرار نشاط الزوايا في مختلف المناطق، وكان الجديد هو المدرسة الرسمية التابعة لوزارة التربية والتعليم، التي أظهرت وجها آخر من تلاقي أبناء الجزائر، وفيها يتلقون تعليما عاما يشمل معه جزء من القيم الدينية، وفي مثل هذه الحصص التي برمجت بعنوان "التربية الإسلامية" يتلقى التلاميذ بعضا من أساسيات دينهم، وقد أظهرت هذه أيضا أثر التحيز الداخلي الضمني أثناءها؛ مما أثار بعض الاعتراضات على البرنامج الرسمي لمادة التربية الإسلامية ومادة التاريخ، إذ أغفل فيهما -بحكم المذهب السائد- المذاهب الموجودة بالجزائر وخاصة الإباضي ثم بعد ذلك الحنبلي، أو قدمت تصورات غير كافية، أو قدم فيها المدرسون معلومات مصدرها تحيز داخلي للنموذج الأشعري، أو الوافد السلفي.
وباستحداث المعهد الوطني العالي لأصول الدين ثم كليات العلوم الإسلامية في الجامعة الجزائرية، -منذ ثمان وعشرين سنة وما زال الأمر في استمرار بفتح مثل هذه الكليات- بدأت تظهر بوادر نتائج التحيز في تدريس المواد الشرعية، وظهر نقاش -أحيانا محتد- بسبب الاختلافات المذهبية نتيجة اختلاف التركيبة المكونة للأستاذة من جهة والمكونة للطلبة من جهة ثانية والمجمتع من جهة ثالثة.
وهنا ظهر جليا أن التحيز الداخلي يبقى غالبا هو السائد في تدريس العلوم الإسلامية، خاصة في غياب آليات التقييم أو مراقبة المضامين، أو عدم الالتزام بها عند وجودها، وبحكم مؤثرات متعددة، جعلت الأطراف المعنية تطرح تساؤلات متعددة كذلك.

3ـ الطلبة المتلقون للتدريس
إن الطلبة هم المحور الذي ترتكز عليه العملية التربوية في التدريس، وحسب فلسفة النظام الجديد هم طرف في العقد، وإن التدريس يتخذ صيغة التعاقد بين الطالب والمؤسسة المكونة مما يتيح له -وهو الأصل- قوة واعتبارا أساسيين في الاستجابة لمطلبه؛ وبناء عروض التكوين وفق متطلبات المتلقي.
ومهما كان من تدخل اعتبارات أخرى فإن عرض التكوين في نجاحه يرتكز على مدى استجابته لمتطلبات المجتمع الحقيقية، لذا كان ضروريا مراعاة جانب الطالب في إعداد العرض التكويني، لأن بقاء العرض مرهون بمدى هذه الاستجابة، ومن وراء الطالب خلفية المجتمع الجزائري الذي يتم في مؤسساته تطبيق هذه البرامج، مما يعني أن صياغتها ينبغي أن تكون وفق اختياراته وتطلعاته، وتصوره لحاضر ومستقبل البلاد.
والواقع أن تركيبة الطلبة بالنسبة إلى الجامعة الجزائرية وخاصة في كليات العلوم الإسلامية هو مرآة عاكسة للتركيبة الاجتماعية، التي يمكن ملاحظة تركيبتها المذهبية كما يأتي:
أولا الأشاعرة انتماء عقديا والمالكية فقهيا: باعتبار السواد الأعظم في المجتمع الجزائري، وبحكم الوجود التاريخي، والتراث الفكري الجزائري الذي في غالبه أشعري، وما يزال، وترعاه مؤسسات متعددة.
ثانيا ـ الإباضية كذلك باعتبار التاريخ والوجود الفعلي لهم منذ فجر تاريخ الإسلام بالجزائر، والحواضر التي عمروها، وما أسهموا به في تاريخ الوطن.
ثالثا ـ المدرسة السلفية في فقهها الحنبلي، وإن كان هذا متأخرا وحديثا، مع امتداد انتشار هذا المذهب في البلاد الإسلامية وخاصة منها العربية.
يضاف إلى هذه التركيبة العقدية التركيبة السلوكية التي تُظهر أيضا تصورات في شكل الممارسة الفعلية للتدين، بين العقلية منها والأثرية والصوفية.
هذا ما ولد ثراء في مجموع الطلبة الذين يرتادون الجامعات، ويلْتَقون بأشكال مخالفة لهم في التفكير الذي ألفوه في المراحل السابقة على الجامعة أو موافقة، وبهذا تتكون لديهم أو لدى بعضهم تصورات، وتتولد ردود أفعال من مثل هذه التساؤلات:
ـ لماذا أدرَّس فكرا لا أنتمي إليه؟
ـ لماذا ينكر وجودي ويتجاهل وضعي؟
ـ أليس لي حق في وطني؟
ـ بل إن مذهبي هو الصواب يجب أن يكون هو السائد؟
ـ مذهبي أولى أن يبنى على وفقه برنامج العقيدة والفقه...
وربما تطور الأمر إلى مراحل متقدمة من اتخاذ مواقف عندما تتنامى التساؤلات وتصبح مبررات لسلوك معاد، على شكل مناظرات وإحياء التاريخ القديم بكل سلبياته، والعيش على فكر العصور السابقة بذهبيِّها وحديديِّها الصدئ أحيانا ....

4ـ الأساتذة المؤطِّرون في كليات العلوم الإسلامية
ومن جانب آخر كان للمؤطر دوره في مثل هذا الوضع، فهو المحرك أحيانا أو الموفق بين الأطراف حسب نوع التكوين والشخصية التي يتمتع بها، وقد تولى التدريس في كليات العلوم الإسلامية بالجزائر  فئات مختلفة من الأساتذة:
أولا ـ المتعاقدون من خارج الوطن:  كانت البداية (إذا اعتبرنا نموذج المعهد الوطني العالي لأصول الدين بالعاصمة ثم جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة) مع المتعاونين الذي جاءوا من أنحاء مختلفة من العالم العربي والإسلامي، وكان لهم إسهامهم في التكوين، وإن لم يكن لهم دور بارز كبير من حيث إثارة التحيزات إلاَّ قليلا لأسباب منها:
ـ وضعية المتعاون ودور العقود وبنودها التي تحكم العلاقة بينه وبين الإدارة وتحدد مهامه.
ـ دور الإدارة في رعاية مصلحة الأمة والمحافظة على مكتسباتها ووحدتها، والحرص على أهداف التدريس العامة.
مما أنقص من آثار التحيز للقناعات، وإن لم يمنعها كلية، فقد شهد تحيزا خاصة للنموذج الأشعري في مقابل الاتجاه الحديثي الأثري، وكذا تجاه النموذج الإباضي وإن قليلا.
لكن كان تحيزا معقولا في حدود طبيعة التدريس الجامعي وأحيانا كان من متطلباته، حتى لا يعيش الطالب نمطية فكرية، ولكي ينفتح على الأفكار المتعددة.
ثانيا ـ الأساتذة خريجو جامعات غير جزائرية: وكان وجود هؤلاء نتيجة لتأخر التكوين داخل الوطن مدة طويلة منذ الاستقلال،  فبتوقف نشاط معاهد التعليم الأصلي، لم يستفد من الجيل الذي واكب الفترة الاستعمارية وتكون في الزيتونة القريبة أو الأزهر، كما لم يفتح المجال لتكوين متخصصين في الشريعة بما يتيح الاكتفاء عند فتح كليات العلوم الإسلامية.
فلما فتحت كليات الدراسات الإسلامية كانت فئة خريجي الجامعات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية ممن يدرسون، مما جعل الطالب يتلقى العلم من وجهات نظر مختلفة وقد يتعاقب عليه أساتذة تتضارب أفكارهم إلى حد التناقض أحيانا.
وغني عن البيان أن هذه الفئة لا يمكنها أن تترك تحيزها للنموذج الداخلي الذي تكونت به، فسرى التدريس بنماذج وألوانا من المناهج والمضامين المتعددة.
ثالثا ـ الأساتذة خريجو الجامعة الجزائرية نقصد بهم الذين كانوا ثمرة الجامعة الجزائرية في الدراسات الإسلامية، وقد أصبح عددهم في الفترة الأخيرة كافيا للتأطير في الغالب، فهم تلامذة للفئتين السابقتين، وإن كان من ميزتهم أنهم بأثر من قربهم إلى المجتمع، ومواكبتهم آلامه وآماله وهم جزء منه في كل شيء، فقد غلب على أكثرهم الميل إلى التوسط في الموضوع، وتغليب مصلحة الأمة في وحدتها وتقارب وجهات نظرها، مما قلل من وجود آثار التحيز الداخلي الحاد منهم.
ودائما بقي الإشكال حاضرا مؤرقا، في التعامل مع مواد تدريس العلوم الشرعية بين التجرد والتحيز، والتوفيق بين الآراء المختلفة أو هكذا تبدو؛ وبين العمل وفق المقاصد العليا للشرع وهي كرامة الإنسان واحترامه ووحدة الأمة وصيانتها من الانشقاق.
وفي كل هذه التركيبات المتنوعة حضر التحيز الداخلي الضمني، وأدى إلى آثار على مستويات متعددة، يهمنا منها ما كان على مستوى التحصين الفكري والعقدي نموذجا.

5ـ أثر التحيز في التدريس على التحصين الفكري والعقدي
من المتعارف عليه أن الأصل في اختلاف الرأي -أخلاقا- أن لا يفسد المودة، لكن هذا يبقى رهين منهج التعامل مع الاختلاف، حتى لا يكون على نقيض ما أريد له، فالمسلمات المهمة المتعلقة بالقضية هي:
ـ إن الاختلاف سنة إلهية
ـ إن الاختلاف ضروري حتمية منهجية وواقعية
ـ إن من مكونات الشخصية ذاتية صاحبها واستقلاله عن الذوبان في الآخرين

والإشكال هو: إلى أي مدى يمكن قبول هذه المسلمات، وهل هي مطلقة في كل مجال؟
وهل يصلح تقييد المسلمات؟
إن نظرة متأنية إلى آثار التحيز الفكري الضمني وفي تدريس العلوم الإسلامية خصوصا، والإنسانية عموما تسلِم إلى ضرورة وضع المعايير، لا على سبيل الحجر على العقول ولكن من أجل البحث عن السبيل المجدية للتعامل مع التحيز بإيجابية.
فقد جنى التحيز الداخلي على المجتمع آثارا بدأت تظهر للعيان، وتطفو على السطح لا يمكن تجاهلها، منها على سبيل المثال:
ـ حصر علم الله تعالى في دائرة فكر رجل من خلقه، أو مذهب من مذاهب التفكير البشري، وادعاء النهاية في العلم، والله تعالى يقول: "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" [الإسراء: 85 ] ، وقال: "وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء" [البقرة: 255] .
ـ إلغاء الأطراف المتحيَّز ضدها، مما يورث الضغائن ويحيي الأحقاد، ويتيح الفرصة لمن يتحينها من أجل إحلال الفرقة وتوسيع الشقة، والتيئيس من الرجوع إلى وحدة الأمة.
ـ فتح باب الجدل العقيم والرجوع إلى أفكار عهود قديمة كان لها مبررها في وقتها، مما جعلنا نعيش فعليا أفكار المنتصف الثاني من القرن الأول الهجري(9)، ونناقش قضايا عجز العقل المسلم قديما عن حلها، وأنزلنا إلى عوام الناس مسائل هي من اختصاص أهل العلم، ولم نعمل برأي تصنيف المعارف وتوزيعها حسب المتأهلين لها، فتوسع الخطاب الديني للعامة إلى هذه القضايا غير المجدي البحث فيها.
ـ اغتراب الطالب عن عالمه وعصره، ومحاولة صناعته لعصور ماضية، والمفترض أن يصنع لما يستقبل من الزمان، عملا بالحكمة المنسوبة إلى الإمام علي: «ربوا أبناءكم لزمان غير زمانكم»، فأصبحنا من خلال دراسة وتدريس العلوم الإسلامية نربي لغير زماننا لكن بالخُلف.
ـ التنكر للتراث الوطني وهو من التراث الإسلامي، وبخس الناس أشياءهم، والبناء من جديد على غير مرجعية، أو البداية من الصفر في العمل الحضاري وهي غالبا آيلة إليه.
ـ التشكيك في المرجعية الدينية وتكريس التبعية العلمية لجهة دون أخرى، وتضييع أحكام الشرع بالرجوع إلى من لا يتأهل للقول إما لضعف علم، وإما لجهل بمعطيات البيئة وملابساتها الواجب اعتبارها أثناء التعامل مع الأحكام الشرعية خاصة.
ـ اختلاق الفرقة بين أبناء الأمة في وقت هم أحوج ما يكونون إلى التآلف والعمل معا لتحقيق الرسالة التي خلق لها الإنسان.
ـ تضييع مكتسب وحدة الأمة والوطن باعتبارهما مقاصد شرعية ضرورية.
ـ تقديم التصور السيئ عن دراسة الشرع وتكريس انطباع المغرضين حول الدين والتدين، والإسهام في تشويه صورة الإسلام كما تريدها بعض أجهزة الإعلام ودوائر القرار المختلفة.
إن اليقين قائم بأن العلم الشرعي بريء من مثل هذه النتائج التي ساهمنا في إيجادها؛ وأن الدين الذي جاء ليهدي الناس للتي هي أقوم لن يكون أبدا سببا في مثل هذه الحال التي نعيشها. والله تعالى يقول: "إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً "[الإسراء: 9]؛ ويقول تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ " [آل عمران: 110]؛ ويقول: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" [المؤمنون: 52].

فالمسلَّم به أن هذه العلوم الشرعية لا يمكن أن تنتج هذه السلبيات، فهي نتيجة سبب آخر يعود إلى قراءتها وتفسيرها، والذي عند الله لا يفرق بل يجمع، ولا ينغص ولكن يطمئن، فإذا وجد غير هذا فهو أثر من لمسة الإنسان، وتدخله، وتحيزه إلى غير الصواب.

فهل يمكن البحث عن صيغة ومنهج يتبع في تدريس العلوم الإسلامية بما يحقق أهدافه وغاياته، ويجعله بحق يؤدي دوره الحضاري، ويجعل الجزائر وبالتبع غيرها من البلاد تسهم في المسيرة الحضارية الخيِّرة للإنسانية، ويقدم للبشرية نموذجا نيرا عن الإسلام والمسلمين كما يراد أن يكونوا عليه؟

6ـ كيفية معالجة الموضوع في سبيل الحصول على الإيجابيات وتقليل الأضرار
تقاس أهمية معالجة أي إشكال وأي وضعية غير مستساغة بقدر أثرها لو بقيت وما ينتج من الخير لو أصلح الأمر؛ وتأتي معالجة التحيز في تدريس العلوم الإسلامية ضمن الأولويات لما لها من أثر، ولأهمية هذا التخصص المرتبط أساسا بالمجتمع والحياة الفردية للإنسان، وفي هذا المجال يرى الدكتور عبد الناصر موسى أبو البصل رئيس جامعة العلوم الإسلامية العالمية بالأردن إن الموضوع موضوع الساعة، لما له من آثار على المجتمع عموما، ولأنه موكول له صناعة عقول أبناء جيل المستقبل لمواجهة التحدّيات. فقوّة المجتمعات والأمم تقاس بقوّة التعليم، والتعليم الشرعي خاصة(10).
إن من أساسيات البحث في إصلاح الأوضاع وحل الإشكالات توفر الاستعداد لإصلاح الخلل المحتمل.
من هذا المنطلق ينبغي أن يكون البحث مجديا من حيث منهجه أصلا، فالحلول الممكنة كثيرة، وذلك بالرجوع إلى تراثنا الفكري والحضاري وإلى الفكر السديد المنطقي.
فإن النظر المتأمل يمكنه أن يحول هذه الوضعية التي هي محل معاناة لتصبح سببا للفعل الحضاري المثمر والفعال، ودفعا للبحث العلمي في الاتجاه السليم، ليكون التدريس أداة فعالة في خدمة الأمة وتحقيق أهدافها ورسالتها.
فإن التعدد المذهبي الذي تشهده الجزائر ليس جديدا بل متوارثا منذ أمد بعيد، كما أنه ليس بدعا بين البلاد الإسلامية ولا خارجها.
والواجب أن يكون سببا للثراء الحضاري؛ ولقد سبق جيل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وقدم نموذجا من التلاقي بين المذهبين دون إحداث صدام بسب التحيز؛ وهذا بفتح المجال للطلبة للتعرف على مختلف الأفكار وإعدادهم مسبقا للتعامل مع الاختلاف.
ومن شأن الجامعة الجزائرية أن تقدم أحسن مثال للثراء الفكري، والتعايش المذهبي وحوار الأفكار بما تتوفر عليه من تركيبة فكرية متنوعة متعايشة فيما بينها عبر تاريخها الطويل العريق.
لذا فالجامعة الجزائرية وبالأخص كليات العلوم الإسلامية مدعوة إلى أن تمارس هذا المظهر الحضاري، من خلال فسح المجال للتيارات الفكرية في إطار الإسلام، فيتعلم الطالب أثناء تكوينه أخلاقيات الحوار وآداب المناظرة كما يقررها الفكر الإسلامي؛ ويكتسب رحابة صدر تمكنه من الاستماع والاستفادة من أي موقف من المواقف المتعددة في القضية الواحدة.
فتعليم العلوم الإسلامية بالنسبة إلى الجزائر يعد مكسبا وخطوة ووسيلة للرقي بالمستوى الفكري للأمة؛ وليس من المستحيل تحقيق التوازن فيه وتجسيد الوحدة التي يأمر بها الشرع من خلال هذا النوع من التخصص.
وإن سبل تخطي التحيز المرفوض يمكن أن يتخذ نموذجين سابقين يرجع إلى أحسنهما:

النموذج الأول:
النمط القديم الذي يلتزم فيه كل مذهب بمقرراته في مدارسه، وبه يغلق المجال أمام الاحتكاك واللقاء الفكري إلاَّ في نطاق محدود جدا، وخاضع لمناسبات قد تكون بناءة، كما يمكن أن تكون مظاهر للصراع والعيش على وقع الأفعال وردود الأفعال؛ وأما في الدراسة ومناهجها وبرامجها فيبقى كل فريق وفيًّا لمذهبه غير مستوف للمطلوب معرفته عن الآخرين.
النموذج الثاني: وهو النموذج الذي ظهر ضمن نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وبعض من سبقها من أعلام الجزائر الذين جسدوا لقاء المذهبين خاصة، وأتاح تعليما مختلطا بينهما، آتى ثماره في تلاحم صف الأمة ضد المستعمر.
وهذا النموذج هو الأمثل والمفروض أن يقتدى به في وقتنا وفي جامعاتنا، على أن يرتكز على الآتي:
ـ التدريس وفق دفتر شروط يحدد مضامين المعارف المقدمة إلى الطلبة، يلتزم فيه بما هو موجود من المدارس الإسلامية في الوطن.
ـ توسيع دائرة وقاعدة التعرف على هذه المدارس بين الأساتذة وبين الطلبة من خلال وسائل المعرفة والتواصل المتعددة.
ـ توجيه البحث العلمي ضمن العلوم الإسلامية إلى خدمة مقصد الوحدة بين المسلمين، وبحث آلياته، المعرفية والمنهجية.
ـ ترسيخ أخلاق أهل العلم بين كل الأطراف المعنية بالبحث العلمي والأداء التربوي، في كل أطوار التعليم والتعليم الجامعي بخاصة.

خـــاتــمة:
وبعد فهذه المحاولة هي بداية طريق في سبيل مواجهة إشكال التحيز في تدريس العلوم الإسلامية في الجامعة، تُظهر أن الموضوع في أصله ليس من نتائج وسمات هذا التخصص، بقدر ما هو مرتبط أساسا بشخصية من يشرف على هذا التخصص في كل مستويات الإشراف، والتطبيق، وإن الكل معني به، وإن تحقيق الهدف الشرعي الحضاري من هذا التدريس ممكن، وليس بالبعيد ولا المستحيل عندما تصدق العزائم وتخلص النيات، كما أفلح من سبق يمكن لمن لحق أن يكون على المنهج، وكما قال الشيخ عدون اشريفي -رحمه الله-: «إننا قد وجدنا حلولا لعصرنا، فعليكم أنتم أن تجدوا حلولا لعصركم».  والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


الهوامش:
1ـ رقية طه العلواني، تطوير وسائل تدريس العلوم الإسلامية في الجامعات باستخدام التعليم الإليكتروني، مادة أحكام الأسرة نموذجا، قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، جامعة البحرين، ص5.(ملف إليكتروني).
2ـ نبيل الحيدري، مناهج التربية الإسلامية هل تحمل فخاخاً تربك عقول أبنائنا؟، عن موقع: إذاعة العراق الحر، بتاريخ، 17 أفريل 2010.
3ـ المسيري عبد الوهاب، إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن والقاهرة، القاهرة  1998.
4ـ المرجع السابق.
5ـ ابن خلدون، وقال في تعريفه: "إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك من الفقه أو غيره." المقدمة، ج2 ص 820، 821 دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت ط2، 1979.
6ـ انظر على سبيل المثال: تاريخ الجزائر الثقافي من القرن العاشر إلى الرابع عشر (16 ـ 20م)، أ.د.أبو القاسم سعد الله، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1981م، ح1 ص 273 وما بعدها؛ أ.د. إبراهيم بحاز، الدولة الرستمية، 160 ـ 296هـ 777 ـ 909م، دراسة في الأوضاع الاقتصادية والحياة الفكرية، نشر جمعية التراث، القرارة غرداية، ط2، 141هـ1993م، ص 275ـ 293.
7ـ د. محمد صالح ناصر، الشيخ إبراهيم اطفيش في جهاده الإسلامي، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، ط1 سنة 1991م، ص 7.
8ـ بساح شنار الإباضية والحركة الإصلاحية بالجزائر المعاصرة، مقال ترجمه من الإنجليزية أ. أولاد بابهون بكير ، 1405هـ 1984م، ص 9، وانظر ص 7 منه.
9ـ انظر: د. محمد باباعمي، محاضرة: "صفين القرن العشرين".
10ـ موقع: WWW.alhorria.net .

المصدر : فيكوس

إضافة تعليق