أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - وسائط إعلامية - مقالات مكتوبة - مكامن القوة الناعمة في المجتمع الميزابي
الكثير من الناس في الجزائر وخارجها ممن عرف المجتمع الميزابي عن كثب، معاشرة لبعض أفراده في تجارة أو عمل، أو زيارة لقصر من قصور وادي ميزاب يشهد بتميز هؤلاء الناس في حياتهم، ويقر بنبل أخلاقهم وحسن معاشرتهم لغيرهم، وبالتزامهم الديني وبانضباطهم الاجتماعي، وبتفانيهم في أداء أعمالهم خاصة التجارة منها.
ارتسمت هذه الصورة الجميلة في مخيال عموم الشعب الجزائري عن هذا المجتمع، وأضحت علامة مميزة ذات مواصفات بارزة عنه.
لعل الكثير يتساءل: ما هو السر في ذلك، أو ما هي مكامن القوة في هذا المجتمع التي تعمل على صناعة هذا النموذج من الأفراد ؟
أعتقد أني لا أفشي سرا إن قلت أن هذه القوى تتمثل ـ حسب تقديري ـ في الجوانب الآتية:
1ـ مكمن ديني عقدي:
تلقى هذا المجتمع تعاليم دين الإسلام كسائر المسلمين، إلا أنه حرص على الالتزام بها في كامل جوانب حياته، فهو ينطلق من إيمانه بالله تعالى ليرسم مساره الاجتماعي، وذلك بتجسيد نصوص القرآن والسنة الكثيرة الداعية إلى ربط الإيمان بالعمل، والقول بالفعل، من ذلك قول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم" ، وقوله: "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل"
فهم الدين بكونه كل متكامل يصدق بعضه بعضا أعطى لأفراده الشحنة العملية التي تجعلهم أكثر فاعلية في الحياة انطلاقا من إيمانهم بالله تعالى، وأنه لا جدوى من إيمان بدون ترجمته عملا، ولا جدوى من أقوال يرددها اللسان وتكذبها الجوارح.
فعل هذا المبدأ العقدي فعله في الفرد الميزابي، من خلال التربية الأسرية والخطاب الدعوي المسجدي؛ الضاغطان على تنشئة الفرد بناء على هذا الأساس، فترعرع في أجوائه ولم يعرف سواه، فشحن بشحنة إيمانية عملية ربطته بالله تعالى، وجعلت تحركه في إطار مبدإ آخر هو الخوف والرجاء.
فهو يلتزم بالوجبات وينتهي عن المحرمات ويفعل المبرات ويسارع إلى الخيرات خوفا من عقاب الله تعالى وسخطه، ورجاء في ثواب الله تعالى ورضوانه.
فكانت النتيجة فرد ملتزم عموما ومجتمع تحكمه تعاليم الإسلام في مظهره العام.
2 ـ مكمن تربوي أخلاقي :
لعل السمة الثانية المميزة للفرد الميزابي ومجتمعه هي الحرص على معاشرة الناس بالمعروف على أساسا أخلاق الإسلام، المتمثلة في الأمانة والصدق والثقة والوفاء والاستقامة، وفي المقابل نبذ الخيانة والغدر والكذب والانحراف والفواحش والمفاسد.
لم تتجسد هذه القيم سلوكا في أفراد الناس من فراغ أو من تمني أو من شعارات دينية تردد، وإنما هي نتاج ذلك المكمن العقدي السالف الذكر، الذي ربط فيه الإيمان بالعمل والاستقامة، وجعل الله تعالى مدار حياة الفرد رقيبا له في حركاته وسكناته.
كما أنه ثمرة عمل دؤوب مضن يستمر لسنوات ويبذل يوميا في أحضان أسر قوامها أبوان صالحان حازمان، ووظيفة الأم فيها وشغلها الشاغل وهمها المقيم المقعد المرابطة على رعاية فلذات كبدها حتى تراهم على حظ وافر من استقامة الدين ونبل الأخلاق.
يساهم منبر المسجد في تنوير المجتمع بهذا الخطاب ويدعو إليه، وتواكب المدرسة القرآنية جهود الأسرة في البيت فتدعمه بحرصها على التربية حرصها على التعليم، ويعمل الرقيب الاجتماعي في الشارع على تحصين هذا الجهد وحمايته ومعاقبة المتعدين عليه.
تكون النتيجة بعد ذلك فرد مستقيم دينيا ملتزم أخلاقيا منضبط اجتماعيا، وكذا مجتمع تحكمه روح الإسلام وتعاليمه ومظاهره العامة.
3 ـ مكمن اجتماعي تكافلي:
البصمة الثالثة التي يصطبغ بها المجتمع الميزابي هي تلك الشبكة من العلاقات الاجتماعية المتراصة المتينة التي تحكم حياة أفراده وتجمعهم للعيش في كنفها، استلهاما لمبادئ الإسلام الداعية إلى التكاثف والتآزر والتعاون على البر والتقوى، كما أنها تجسيدا عمليا لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتآزرهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"
استغرق إنشاء هذه الشبكة الاجتماعية وتنظيمها وتأطيرها ونزع الشوائب منها مدة زمنية ليست باليسيرة مقدرة بعدة قرون، حتى يتراص المجتمع وينضبط وينصهر في بعضهم البعض مشكلا لحمة واحدة متجانسة تحكمه ترسانة من الأعراف والتقاليد والنظم المستلهمة من روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وقد ساهمت في ذلك مؤسسات المجتمع المختلفة المتمثلة أساسا في المسجد والعشيرة والأسرة والنادي والسوق والجمعية.
تجسدت ثمار هذا العمل في كل مظاهر التكافل والتعاون الاجتماعي، وسيران روح الجماعة، ووحدة الصف، والعمل الجماعي، والتطوع والتضحية لخدمة الصالح العام. وكل ما يصب في رعاية الإنسان وبناء عقله وروحه ونفسه وجسده، وصونه من المهالك والمفاسد المختلفة دينيا ودنيويا.
ومن أمثلة المشاريع المجسدة بناء العشرات من المساجد والمدارس والنوادي ودور العرش، وتأسيس الجمعيات وإقامة الأعراس الجماعية، والتكفل بالفئات المعوزة من أرامل وفقراء ويتامى، والصلح بين الناس والقضاء على العزوبة والعنوسة والبطالة والتسول ومحاربة المجاهرة بالفواحش والمناكر.
فلا يرى متسول في صفوفهم، ولا شيخ مرمى في شوارعهم، ولا فقير يمد يده، ولا عاطل عن العمل.
4 - مكمن عملي اقتصادي:
العمل وعمارة الأرض بشتى أفعال الخير والمسارعة إليها والتسابق فيها هي خصلة جلية في الفرد الميزابي، فهو متفرغ في صباه وريعان شبابه لتلقي نصيبه من التعليم الرسمي والقرآني، ثم ليلتحق بعد ذلك بعمله الذي سخر له تجارة أوفلاحة أو حرفا أو وظائف.
تجد الفرد منقطعا إلى عمله منهمكا فيه متفانيا في أدائه يعطيه جل وقته وجهده. وفي المقابل تجده يمقت الفراغ وتضييع الأوقات جلوسا على طاولات المقاهي أو على أرصفة الشوارع.
لم يأت هذا الأمر كذلك من فراغ، بل هو تراكم جهود الآباء والأجداد الذين غرسوا بذرة حب العمل وقيمته في الأبناء جيلا عن جيل، واقتنعوا أن الدنيا لا تنال بالتمني وإنما تؤخذ غلابا، وأن النجاح ضريبته التعب والجد والكد.
لعل البيئة الصحراوية الشحيحة الموارد القاسية المناخ، قد ساعدت على تشكل هذا الأمر في الشخصية الميزابية، فعلى الفرد أن يعمل كثيرا لأجل تحصيل القوت الحلال من عرق جبينه.
كما أن الفرد الميزابي تعود على الاعتماد على النفس، ونبذ الاتكالية، وانتظار المساعدة من الغير ومن جهات أخرى لتمن عليه بنعمها وخيراتها، فهو يسعى لتحصيل قوته بكد يمينه.
كما أنه معروف بالتقشف في مظاهر حياته عموما، فهو يحسن التصرف في أمواله جمعا وإنفاقا واستثمارا، كما يحسن ترتيب أولوياته في الحياة، ويحسن فرز ضرورياته من كمالياته، لذا تجده أبعد الناس عن مظاهر الإسراف والتبذير، كما أنه يحمل فكر الادخار لمستقبل أيامه، ويفكر في نفسه كما يفكر في والديه وأسرته وأبنائه.
تلكم هي مفاتيح فهم هذا المجتمع، ومكامن القوة الناعمة فيه، وهذا لا يعني أبدا خلوه من معايب ونقائص كثيرة، كما لا يعني أبدا التزام كل أفراده بما قيل، إلا أن المشهد العام للمجتمع لا يزال يبذل الوسع ويجاهد النفس للاحتكام لهذه المبادئ الإسلامية الرفيعة.
على هذه القيم أسس بنيان المجتمع الميزابي وارتفعت قواعده وشيدت حضارته، في مسيرة استغرفت الألف عام من الزمن، فمن أراد أن يقلد فهذه هي الوصفة وهذا هو الطريق، فهل أنتم فاعلون.