الأحد 12 جويلية 2015
د. محمد بن موسى باباعمي
تناولت وسائل الإعلام، بمختلف مستوياتها ومشاربها وتوجُّهاتها، الأحداث الأليمة في غرداية، والتي أودت بحياة أكثر من عشرين مدنيا، جُرِح فيها المئات، وأحرقت مساكن ومحلات وسيارات، ثم أحالت البلد إلى نار وجحيم دائم؛ ولا شكَّ أنَّ توصيف ما حدَث يتكرَّر ويتردَّد بصيغ مختلفة، لكنَّ المؤكَّد هو أنَّ "مساحة المجهول باتت أكبر بكثير من مساحة المعلوم"، وأنَّ الكثير من المتغيِّرات تجمَّعت مثل روافد صغيرة، لتتحوَّل إلى فيضان ماحق، وليس أيسر على المرء من أن يشير إلى "سبب واحد" أو "رافد واحد"، فيحمِّله جميع الشرور، ويزوِّر لذلك الحقائق، ما دام الناس يجهلون أبسط المعلومات، وما داموا على استعداد لتقبُّل أيِّ توجيه وأيِّ فكرة، مهما بدا عوارها وهزالها، وما دامت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام سلاحا فتاكا يلعب به الصغار.
ما سبب الفتنة؟ وهل هي محلية أم وطنية، أم أنها توجَّه بيد خارجية؟ ما دورُ السلطة الحاكمة، والدولة، والحكومة، وأجهزة الأمن، والعدالة... وغيرها من مؤسَّسات الدولة، في هذا الشأن؟ وما حدود قيامها بالواجب، وما حدود تقصيرها؟ ولماذا ترِكت الفتنة تتعفَّن إلى أن تبلغ هذا المستوى الخطير؟ ومَن المستفيد منها في الأخير؟ وما مصير غرداية، ومصير صحراء الجزائر، ومصير الجزائر، بعد هذه الأحداث؟ وهل ما نشهده هو بداية أم هو النهاية؟
جميعها أسئلة تتخبط حولها الأخبار، وتختزل في شأنها الآراء؛ والحقيقة أنَّ "تراكم" هذه الأسباب، وعدم معالجتها في أوانها، وغيابَ أدنى صورة للحاضر وللمستقبل، وانعدام أدنى رؤية مجتمعية أو سياسية معقولة؛ ومرور المنطقة بمساوامات سياسوية من "عهد الحزب الواحد"، إلى عصرنا اليومَ؛ كلُّ ذلك أزاح فرص الخروج من المأزق، وطرح بديلا عنها فكرة "طيِّ الذراع"، والتهديد العموديِّ والأفقيِّ في كلِّ منعرج، وأدخلت غرداية في متاهات لا حصر لها.
ولكن، ثمة ثوابت لا نتنازل عنها، ومنطلقات لا نحيد عنها، مهما تعالت أبواق المفسدين، ومهما خلط الأمرَ المرجفون، وهي:
* إنَّ ثقتنا في الله سبحانه وفي رحمته لا تتزعزع، ولا يغادر شفاهنا دعاء الاستغاثة منه، ودعاء اللجوء إليه سبحانه: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، "ربِّ إني مغلوب فانتصِر"...
* إذا خسرنا دنيانا بفعل فاعلين، فإننا بحول الله تعالى حريصون على أن لا نخسر أخرانا، بل حرصنا أن نحوِّل كلَّ ما يطالنا من ظلم معبَرا إلى رضا الله تعالى، وإلى الفردوس الأعلى: "إني أخاف الله ربَّ العالمين".
* كلُّ ظالم سينال جزاءه من الله تعالى المقسِط العزيز المنتقم، وليست غيرتنا على الحرمات وعلى الأرواح بأكثر من غيرة الله تعالى عليها، ولا نشكُّ أبدا أنَّهم سيكونون عبرة لكلِّ معتبر: "وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون".
* نحن مسلمون، على المذهب الإباضيِّ، معترفون بإسلام جميع من كتب الله تعالى له أن يولد على مذهب آخر، ممَّا ليس للإنسان فيه خيار؛ وأيُّ محاولة لتكفيرنا أو إخراجنا من الملَّة السمحة، سيبوء إثمها صاحبها، وستعود عليه كما وعد الله سبحانه. فلا أحد مهما كان يستطيع أن يساومنا في ديننا وإيماننا، ولا نساوم أحدا في دينه وإيمانه.
* نحن جزائريون، ولدنا أمازيغا، كما ولد غيرنا كلٌّ على عرقه: عربًا، وطوارق وغيرهم، إذ العِرق ليس ميزة لأحد ولا عارا على أحد، وإنما هو قدَرٌ مقدور من الله الحكيم العليم، ليمتحننا في تقبُّل ما أمر به، ونبذ ما تأمرنا به حميتنا وعصبيتنا، فلا نعيِّر أحدا على عرقه، ولا نخجل من عرقنا، ولكننا نرضى بما قضى الله علينا وقدَّر، وتلك حلاوة الإيمان.
* نؤمن بوحدة وطننا الجزائر، وليس لأحد أن يشكك في وطنيتنا، كما لا نشكك في وطنية أحد؛ ونحن الدرع الواقي لهذه الوحدة، كما أنَّنا الحلقة الأصعب والأكثر تعقيدا، ذلك أنَّ العدو يخطط للكثيرين حتى يقصونا، ويخطط لنا حتى نجد أنفسنا معزولين، لكن للأسف يبقى بعض القائمين على سياسة الوطن في غفلة من خطورة الأمر، يردد الكثير منهم خطابات وشعارات جوفاء فارغة، لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
* أن ترخَّص دماؤنا أو أيَّ دم لأيِّ مواطن جزائريٍّ مسلم، هذا ما نرفضه كلية، ونقف أمامه بشدَّة، ونحاربه بقوَّة، ونسأل الله العليَّ الحكيم أن يعيننا على ذلك وهو "ولي الصالحين".
* نحن نعي ونستوعب مدى تعقد العصر، وأنه مختلف عما مضى، وأنَّ السلطة لم تبق بيد جهاز بعينه، وإنما توزعت عبر وسائل للإعلام عالمية، ووسائل للاقتصاد، وأخرى للمعرفة... وكذا عبر مراكز للبحث والتخطيط، لها اليد الطولى في كثير مما يعانيه العالم بعامة، والعالم الإسلامي بخاصة؛ وأيُّ اختزال للحكم ما هو إلا ذر للرماد على الأعين، وغفلة حيث لا تنفع الغفلة.
* لا بدَّ من اتخاذ جميع الأسباب المأمور بها شرعا، ذلك أنَّ اتخاذ الأسباب لا يناقض التوكل على الله سبحانه، والأسباب يد الله في قدره، فليس من الحكمة ردُّ يد الله وطلب ذاته بالدعاء مثلا. فأول الله الدعاء الاستجابة العملية لله العلي الحكيم.
* لهذا اليوم غده، وللغد ما بعده، ولا بدَّ لليل أن ينجلي، وللصبح أن ينفلق، فكلنا توجها إلى الله أن يقصِّر عمر الشرِّ، وأن يديم العافية، ويزيل أسباب الفرقة والفتنة، وينتصر للحقِّ وأهله.