أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - وسائط إعلامية - مقالات مكتوبة - بن باديس كان "أباضيا" والشيخ بيوض كان "مالكيا"؟

مقالات مكتوبة

الثلاثاء 4 فيفري 2014

بن باديس كان "أباضيا" والشيخ بيوض كان "مالكيا"؟

عبد الناصر

"كلنا أباضيون" .. لا يمكن لقارئ لسيرة العالم الجليل، بيوض إبراهيم بن عمر سوى أن يقول هذه الجملة، فالرجل الذي أفنى من عمره قرابة نصف قرن في تفسير القرآن الكريم، قدّم تفسيرا حضاريا، هو خليط من أشهر تفاسير علماء الإسلام من فجر الدين الحنيف إلى تفسير سيد قطب رحمه الله.

 "كلنا مالكيون" .. ولا يمكن لقارئ لسيرة العلامة الفاضل الشيخ عبد الحميد بن باديس سوى أن يقول هذه الجملة، فالرجل الذي أفنى من عمره عشرين سنة في تفسير القرآن الكريم، قدم تفسيرا عصريا راقيا، قرأ فيه واقع شعبه وجعلهم جميعا يطمحون لأن يصبحوا قرآنا يمشون بين الناس.

والذين يريدون إيجاد فوارق بين المذهب الأباضي وسائر المذاهب السنية والمالكية بالخصوص، سيعجزون عندما يعلمون بأن أكبر إمام عرفه مالكيو الجزائر وهو الشيخ بن باديس، وأكبر عالم عرفه أباضيو الجزائر وهو الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر، كانا توأمي علم، أسّسا معا جمعية العلماء المسلمين، ومن شدة حب وثقة الإمام بن باديس في ابن القرارة الكريم بيوض، منحه رفقة الشيخ مبارك الميلي أمانة المال في الجمعية، منذ أول يوم تأسست فيه في نادي الترقي بالجزائر العاصمة في الخامس من ماي 1931.

لقد حمل الشيخ بن باديس حلم تأسيس جمعية، تبني العقول قبل الثورة على الاستعمار منذ أن أدى فريضة الحج عام 1931 وراح يبحث عن الأمناء والعلماء في الجزائر، ومرت قرابة العشرين سنة وهو يغربل ويكوّن، إلى أن استقر به المقام على رجال أشداء على فرنسا رحماء بينهم، فأطلق الجمعية التي هزت الجزائريين هزا، وكان ضمن حاملي لوائها الشيخ إبراهيم بيوض.

وكتب عن بيوض عالم الأباضية، الشيخ البشير الإبراهيمي والراحل سعد الله وأحمد توفيق المدني وأحمد الخطيب، ولم يضعوه أبدا في مذهب غير مذهب كل الجزائريين وهو الإسلام الحنيف، وعاش الرجل اثنين وثمانين سنة كان يخطب فيها في مختلف المدن الجزائرية، كما حضر ملتقيات الفكر الإسلامي، فكان يلتقي بالمفكر مالك بن نبي والشيخ أحمد حماني ونايت بلقاسم، كما التقى البوطي والشيخ محمد الغزالي، كما يلتقي البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.

وعندما ختم الشيخ بيوض القرآن الكريم تفسيرا، وأقيمت له حفلة تكريمية في مدينة القرارة، خاطب الجزائريين المهنئين الذي جاءوا من كل مكان، فتحدث عن جهاده وعن فضل القرآن الكريم على الجزائريين، وتذكر رفيق دربه الشيخ عبد الحميد بن باديس، فكان يقول إن هدفه هو هدف الشيخ بن باديس في تربية النشء على القرآن الكريم، لأن الجزائر تعلّق على القرآنيين آمالها، وأعاد ما قاله الشيخ بن باديس: "إنني سأقضي بياضي للعربية والإسلام، كما قضيت سوادي لهما، وإنها لواجبات، هذا عهدي لكم"،  وظل يكرر ما قاله الشيخ بن باديس: "أطلب منكم شيئا واحدا، وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن"، لأن الشيخ بن باديس كان يخاطب صحبه من رجالات الجمعية قبل بقية الجزائريين.

وكما عانى علماء الجمعية من المالكيين من بعض رجال السلطة بعد استقلال الجزائر، وكان منهم بالخصوص الشيخ البشير الابراهيمي الصديق الحميم للشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي شلت حركته بما يشبه الإقامة الجبرية التي قتلت الرجل قبل أجله، إلى أن توفي عام 1965 قبل شهر من انقلاب هواري بومدين على أحمد بن بلة، وجد الشيخ إبراهيم بيوض نفسه تحت الإقامة الجبرية في عهد أحمد بن بلة في مدينته الصغيرة القرارة، كما قام النظام الاشتراكي الجزائري بتأميم أراضيه التي ورثها عن أجداده.

كان النظام الاشتراكي لجزائر الاستقلال، يرى ما بقي من رجالات جمعية العلماء المسلمين سواء من الأباضية بقيادة الشيخ بيوض، أو من المالكية بقيادة الشيخ الإبراهيمي، عملة واحدة لمنهج إصلاحي يُحرج النظامين الناصري والسوفياتي المدعمين الأولين لنظام الجزائر المستقلة، ولحسن الحظ أن الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر منذ تأسيها عام 1984، جمعت العلماء مرة أخرى، حيث تشهد باستمرار رسالات دكتوراه لأبناء ميزاب، وكما درَس ودرَّس فيها ومازال مالكيون، درس ودرّس فيها ومازال أباضيون.

وتكاد تكون مسيرة الشيخ بيوض، صورة طبق الأصل لمسيرة الشيخ بن باديس، رغم أن الشيخ بيوض كان أصغر من الشيخ بن باديس بعشر سنوات، وعاش فترة ما بعد الثورة وفترة الاستقلال من زمن بن بلة إلى زمن الشاذلي بن جديد، بينما رحل بن باديس عن الدنيا قبل الثورة بأربعة عشرة سنة، فقد كان الإسلام بالنسبة للرجلين أكبر من كل المذاهب، إذ لم يحدث وأن قدمّ بن باديس نفسه كعالم مالكي، ولم يقدم بيوض نفسه كعالم أباضي، وكانت المصلحة العامة بالنسبة لهما قبل الخاصة، وحاربا معا الخرافات والفساد والتفرقة بين الجزائريين والجهوية، ليس في قسنطينة ومنطقة الميزاب اللتين ينتميان إليها فقط، وإنما في كل أنحاء الجزائر، كما نهلا معا من جامع الزيتونة، وكتب بن باديس كلاما طيبا في يومية النجاح التي كانت تصدر في قسنطينة، عن لقائه بتلاميذ الميزاب المجتهدين والمشرّفين للجزائر في جامع الزيتونة بتونس، وشرّفا بلديهما بتفسيرهما للقرآن الكريم، فكان بن كثير معلّما لابن باديس ومحمد عبده معلما للشيخ بيوض ثم صارا معا عالمين كبيرين.

فكان الشيخ بن باديس وصحبه وتلامذته يقرؤون ويقدّرون عبد العزيز الثمين ومحمد بن يوسف أطفيش وأيضا الشيخ بيوض، وكان الشيخ بيوض وتلامذته يقرؤون لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأيضا للشيخ بن باديس.

وبإمكان القارئ الاطلاع على تفسير هذين العالمين الكبيرين، ليحلّق بالقرآن الكريم إلى عوالم دينية ودنيوية قد لا يجدها في تفاسير أخرى، ومع ذلك فإن الجزائر عجزت عن تقديم هذين التفسيرين في العالمين العربي والإسلامي، بعد أن عجزت عن تقديمهما لأبنائها في الجزائر، وعجزت عن تقديم هذا النموذج الراقي من الإسلام الحقيقي والوطنية الحقيقية، في مختلف الأزمات، ومنها الأزمة المفتعلة في غرداية في الأيام الأخيرة.

الآن وبعد أربعة وسبعين سنة، عن وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وبعد ثلاثة وثلاثين سنة عن وفاة الشيخ إبراهيم بيوض، يبدو أن الذين يريدون دفن الرجلين كثيرون، وفي بعض الأحيان تكون الغلبة لهم وبالضربة القاضية، فقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسا لجمعية العلماء المسلمين جميعا من دون استثناء، وكان الشيخ بيوض وهو أصغر علماء الجمعية نائبا لأمانة المال رفقة الشيخ مبارك الميلي، ومن عظمة جمعية العلماء المسلمين أن من بين مؤسسيها الكثير من الأباضيين، من بينهم أبو اليقظان الذي كان يعتبره بن باديس من علماء الأمة والشيخ باكلي عبد الرحمان والشيخ الطرابلسي، ومن عظمة التآخي أن بن باديس فتح صفحات جريدته الأولى المنتقد، التي أوقفها الاستعمار الفرنسي، للأقلام الأباضية، حيث كتب فيها رمضان حمود وإبراهيم بيوض وأبو اليقضان، وعندما أسس أبو اليقضان أولى صحف الأباضيين بعنوان وادي ميزاب عام 1925، كتب فيها الشيخان مبارك الميلي والطيب العقبي، واقترح بن باديس تبادل مواضيع الشهاب مع صحيفة المنهاج من دون أدنى خلفية أو تُقية.

طارد الاستعمار الفرنسي صحيفة المنتقد وأوقفها وتابع أقلامها، وطارد المنهاج ونفى يوسف بن طفشين إلى مصر، وقاوم الرجال جميعا تحت راية الإسلام والجزائر حتى تحقق النصر، ولم نسمع خلال مسار الشيخين بن باديس وإبراهيم بيوض كلمة أباضي أو مالكي أو أمازيغي أو عربي، فقد فسرا قرآنا واحدا، ولا يوجد موحّد في الدنيا مثل كتاب الله.

 

الرابط: http://www.echoroukonline.com/ara/articles/193509.html

المصدر جريدة الشروق

إضافة تعليق