أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - كلمة جنازة الشهيد بابا واسماعيل عز الدين بن إبراهيم بن عيسى

أحداث ومحطات

الجمعة 7 فيفري 2014

كلمة جنازة الشهيد بابا واسماعيل عز الدين بن إبراهيم بن عيسى

د. مصطفى بن صالح باجو

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العزيز الجبار، خلق الكون وسخر الليل والنهار، وقضى لكل شيء أجلا وهو القوي القهار.

" تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمُ أَيُّكُمُ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" الملك: ١ – ٢

تباركت ربنا مقدّرا عليما حكيما، وإلها مدبّرًا لطيفا رحيما.

نؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونحمدك على كل حال، ونرضى بما قضيت ونشكرك مهما ضاقت الدنيا وتوالت الأهوال، ونعوذ بك من سخطك يوم تبدل الأرض غير الأرض وتزول الجبال.

 اللهم ألهمنا مراشد أمورنا عند اشتداد الفتن، وثبتنا بالقول الثابت في مضايق المحن، وامنحنا برد اليقين بعدل حكمك، وحكمة قضائك، وارفع عنا ظلم الظالمين وكيد أعدائك.

سبحانك سبحانك يا مغيث يا مجيب يا بصير،  أنت الملاذ وإليك المصير، ومن لنا سواك إذا عزّ المعين وعجز النصير، يا نعم المولى ونعم النصير.

ونصلي ونسلم على سيد الشاكرين وإمام الصابرين محمد بن عبد الله، من أوسع قلبَه رجاءً في الله حين تكالب عليه أعداء الله، فقال بعد أن طاردته ثقيف وأثارت عليه الصغار وسفهاء الألباب، يرمونه بالحجارة ويكيلون له التهم والسباب، حينها آوى إلى ظل شجرة، وأرسل دعاءه الخالد، دعاء ينبع من قلب مكلوم، وعبد مغلوب مهموم، وارتفع يخترق السحاب وتفَتَّحت له الأبواب:

"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ياأرحم الراحمين ، إلى من تكلني ؟ إلى عدوّ يتجهمني ، أم إلى قريب ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك ، أو يَحِلّ عَليّ سخطُك ، لكَ العُتبَى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ".

*****

أيتها الوفود الجامعة، والقلوب الخاشعة، والألسن الضارعة، سلام عليكم تنزل به ملائكة الرحمات في هذه الساعات المباركة من صبيحة الجمعة، وقد شاءت إرادة الله القاهرة أن نعود إلى هذا المكان من جديد، لنجأر إلى الله، ونشكوه ظلما وظلمات داهية، وشرذمة باغية عاتية، ما فتئت تفجعنا بهذه الجرائم النكراء، وتستبيح حرمات المؤمنين الأبرياء، من سفك للدماء، وحرق وتخريب وتفجير، وترويع وتهجير، ثم تجرؤ على التشهير والتزوير، وتنادي أمام الجماهير، إنا كنا عن أنفسنا مدافعين، وللمعتدين مانعين، فاللهم إن هذا بهتان عظيم، ومنكر عظيم، وزور وظلم لا يقره دين ولا عرف ولا قانون.

اللهم إن الباغين قد تجاوزوا المدى، وأفرطوا في الظلم والاعتداء. وها نحن اليوم نفجع مجددا، ونودع شهيدا ثالثا بيننا موسّدا، وما ندري ما يكون غدا. شاب وديع طيب من خيرة أبنائنا، كان ذات صباح يحذر رفاقه من هجوم البغاة على مقبرة بابا والجمة، ودفعته الغيرة للذود عن حرمات الأموات بكل عزيمة وهمة، فاغتالته أيدي الغدر غيلة بوحشية حاقدة عاتية،  دونها وحشية الذئاب والسباع الضارية.

فإنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ننهى عن المنكر، ننهى عن المنكر، ننهى عن المنكر.

*****

فقيدُنا أحبةَ الإيمان هو بابا واسماعيل عز الدين بن إبراهيم بن عيسى.

أبصر نور الحياة يوم 14 سبتمبر 1992م، بمدينة تبسة، حيث يعمل والده في التجارة. وهناك درس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، بالمدرستين الرسمية والقرآنية، ثم أكمل تعليمه الثانوي بمعهد الحياة، بالقرارة، ونال شهادة الباكالوريا في دورة جوان 2012، والتحق بجامعة غرداية في تخصص العلوم الإسلامية، وهو في السنة الثانية بقسم الفقه وأصوله.  كما انضم  إلى قسم التخصص في الشريعة بمعهد عمي سعيد، وكان يخصص عطلة الصيف لحفظ كتاب الله بدار القرآن بالقرطي، وقطع في مسيرته القرآنية أشواطا مباركة، وكان أمله أن يتم استظهار كتاب الله الصيفَ القادم. وشاء الله غير ذلك وهو المدبر الحكيم الحاكم.

كما تولى تدريس مادة الفرنسية بمتوسطة عمي سعيد للبنات فرع الواحة، وله نشاط مشهود، ضمن شباب عشيرته، آل الحاج مسعود.

هكذا شاءت إرادة الله أن يختم أنفاسه وهو متعلق بأمنية حمل كتاب الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نية المؤمن خير من عمله".

وقد يبلغ المرء بصادق نيته آمادا بعيدة، فيثيبه الله بها ثواب العاملين  لسنوات عديدة.

 

والِدَيْه الصابِرَين رغم هول الفاجعة، وقد اختطفت المنية منكما هذه الزهرة اليانعة، وبينكما وبينه مسافات شاسعة، فاهنآ بالاً بما قدمتما فَرَطًا تفرحان به يوم القارعة.

وإن لكما والديه الكريمَيْن، ولأهله وأرحامه، ولنا أجمعين، إن لنا في هدي رسولنا الكريم دليلا يهدينا في ظلمات الليل البهيم. فقد كتب إلى معاذ بن جبل يعزيه في ولده قائلا:  " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله، إلى معاذ بن جبل ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فأعظم الله لك الأجر ، وألهمك الصبر ، ورزقنا وإياك الشكر ، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة ، متعك به في غبطة وسرور ، وقبضه منك بأجر كبير، الصلاة والرحمة والهدى، إن احتسبته فاصبر ، ولا يحبطْ جزعُك أجرَك فتندَمْ ، واعلم أن الجزع لا يرُدّ مَيِّتًا ولا يدفع حزنا".

وما جدوى البكاء على الموتى إلا أن تكون تذكرة للأحياء، وتنبيها للاستعداد ليوم الجزاء، وتعجيلا بالإنابة قبل أن يغلق باب الرجاء، فالتوبةَ التوبةَ عباد الله أجمعين، والمسارعةَ المسارعةَ أيها الشباب، قبل أن يبغتكم المنادي فيوصد دون التوبة الباب.

لو لم تنفعنا يا عز الدين إلا بهذه الموعظة لكفتك شرَفًا في الخالدين، فقد استوجبت منا خالص الدعاء، وطوبى لك أن كنت سببا لتذكير الغافلين، وتبصير الجاهلين، بهذا الوعد الحق وهو حتمًا آتٍ بعد حين.

 

أخانا وشهيدنا الزكي عز الدين، نم قرير العين في جوار الشهداء والصادقين، ومن مهد لك الطريق من شبابنا الشهداء السابقين، وما يضيرك أن تمضي من الحياة خفيف التبعات، وكنت تنهل من علم الشريعة ما تهدي به الجيل في دروب الحياة، فكانت شهادتك أقوى مصباح ينير لهم حالك الظلمات. وأبلغ درس يلقن النشء أن قيمة المرء بما يمنحه لا بما يأخذه، وأن المانحين المخلصين هم الخالدون في جنات مكرمين، وأن المانعين الطامعين هم الخاسؤون الخاسرون في العذاب المهين.

 

شبابنا ورجال أمتنا الصامدين، لقد ضربتم أروع المثل في التضحية في ساعات العسرة، وكانت مواقفكم نادرة عجيبة، فكنتم بُدورَ أمتنا في لياليها الرهيبة، وبعثتم الأمل في مستقبل سيشرق بإذن الله بعد هذه المحنة العصيبة.

فاحرصوا أبناءنا الأعزاء على ثوابت ديننا ومقدسات منهجنا في التعفف عن الدماء، واجتناب المحرّمات مهما كان الظلم والاعتداء، تظفروا بمعية الله وتؤبوا بنصرة الأصدقاء واحترام الألِدّاء.

*****

وما ضرّكم وضرّنا أن يتبجح المعتدون بالسفك والعدوان، ويتشدق المفترون بالإفك والبهتان. ونؤوب بفضل الله طاهري الأيدي مرفوعي الرؤوس بشهادة القرآن: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَبْنَيَ ـ ادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبـَانًا فَتُقُبِّلَ مِنَ اَحَدِهِمَا وَلم يُتَقَبَّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأَقْـتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنم بَسَطْتَّ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْـتُلَنيِ مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْـتُلَكَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) " المائدة 27-28

إنه الحسد المقيت، أعمى صاحبه ودفعه إلى ارتكاب فعلته النكراء، ومدّ يده لتنفيذ ذلك الوعيد، فكان جواب أخيه الحكيم الرشيد، أن يدي لن تمتد إليك بالقتل مهما كان التهديد، لأني أخاف وعيد الله الشديد. 

وسولت له نفسه قتل أخيه، فقتله فاستوجب غضب الله، وباء بإثم القاتلين إلى يوم الدين.   

وسنّها سنة سيئة يحيق بأهلها الوعيد والعذاب المهين:

" وَمَنْ يَّقْتُلْ مُومِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا(93) " النساء 93

*****

ربنا إن يقيننا بعدل قضائك، سكب الرضا في قلوبنا بحكمك وقضائك، وإن رجاءنا في قريب رحمتك من المظلومين طمأننا إلى عاجل نقمتك بالظالمين،  فاللهم نجعلك سترا بيننا وبين جرمهم، فردّ كيدهم في نحورهم يا هازم الأحزاب والفجار، وأرنا فيهم عجائب قدرتك يا عزيز يامنتقم يا جبار.

اللهم هذه دماء أريقت، وديار أحرقت، وأسر هجرت، وأموال سرقت، ومتاجر ومصانع، ومحلات ومزارع، عاث فيها المجرمون فسادا، وحوّلوها ركاما ورمادا، ثم يزعمون الدفاع عن النفس ورد العدوان، فاللهم هذا بهتان ما بعده بهتان، وملائكة الله تشهد والتاريخ يشهد من صاحب الأيدي النظيفة العفيفة، ومن كان المدافع عن الحرمات، ومن كان يستبيح المحرمات، " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلآَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ(12) " البقرة 11-12

إليك نشكو أمر هذه المظالم، يا من يأخذ حق المظلوم من كل ظالم، فاشف صدور قوم مؤمنين بيوم تفضح فيه هؤلاء المجرمين، وتجعلهم عبرة للعالمين، بقدرتك يا منتقم يا أكرم الأكرمين.

ربنا هذه حالنا وأنت أعلم بها منا، نتوب إليك وإن كنا في حقك مفرّطين، فاشملنا برحمتك ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم الطف بنا في هذه المحن الداهية، وأخرجنا من هذه الفتن المتوالية، وانشر علينا حلل الأمن والعافية.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل حياتنا زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " يا أرحم الراحمين.

تعازينا الخالصة لوالديه والآباء والأمهات، والإخوة والأخوات، والأعمام والأقارب والأرحام، وشكر الله سعيكم أحبتنا الكرام، فأهل الفقيد يدعون لكم بحسن المثوبة والمغفرة من العزيز الغفار، ومشاركتكم في الصلاة تغني عن التعزية الخاصة، وجزاكم الله خير ما يجزي عباده المخلصين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

د. مصطفى بن صالح باجو

غرداية. مقبرة بابا السعد الغربي

فجر الجمعة 6 ربيع الثاني 1435هـ - 7 فيفري 2014م

تعليقات

cheikh aissa abdallahالجمعة 07 فيفري 2014 - 23:18

عظم الله اجرنا واجركم انالله وانا اليه راجعون

احمد شرقيالسبت 15 فيفري 2014 - 21:14

من تبسة ببالغ الاسى والحزن وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره تلقيت خبر وفاة بابا واسماعيل عزالدين بن ابرهيم اشاطركم المكم واحزانكم بهذا المصاب الجلل برحيله وتقدم اليكم بتعازينا القلبية الحارة اخيكم في الله احمد شرقي من ولاية تبسة

كروم عمرالجمعة 07 فيفري 2014 - 23:28

السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته تقبل الله منكم الخطى, وكل عمل تقربتم به لوجهه الخالص. نسأل من الله الصبر والسلوان لذوي الشهيد و أقاربه , ولكل المجتمع المزابي فهو فقيدنا كذلك. تحياتي الخالصة للأستاذ و الدكتور مصطفى باجو على هذه الكلمة الكاملة المتكاملة زاده الله علما و نورا على نور السلام عليكم

أبا أحمد السبت 08 فيفري 2014 - 12:39

عظم الله أجركم يا أفراد عائلة بابا واسماعيل كبيرة و صغيرة ورزقكم الله الصبر و السلوان إنا لله و إنا إليه راجعون أبا أحمد -غرادية

زياد وسامالسبت 08 فيفري 2014 - 11:42

لا إله إلا الله، الكلام طوييييييييييييييل، لكنك شيخنا مصطفى أوجزت فأعجزت، وإن كلماتك قد لقيت آذانا صاغية، وقلوبا واعية، أسأل الله لك أجرها وأجر من سمعها، وإني مؤمّنٌ معكم في دعائكم الذي هز الكيان، وحرك الوجدان، موقنا باستجابة من القوي الجبار، العزيز القهار، اللهم أحرقهم أحياْ، اللهم اجعلهم يتمنون الموت فلا يجدوهـ يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ. اللهم سلط على الظالمين عذابا لا يقدر على دفعه أهل السماوات والأرض. آآآآآآآآآمين.

إضافة تعليق