أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - كلمة جنازة الشهيد عبد الرحماني محمد

أحداث ومحطات

السبت 14 ديسمبر 2013

كلمة جنازة الشهيد عبد الرحماني محمد

أ. عيسى بن محمد الشيخ بالحاج

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمُ أَيُّكُمُ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ نحمده جلَّ في علاه وهو الذي لا يحمد على مكروه سواه، ونقدِّسه ضلَّ من سلاه تعاظمت نعماه، هو الوليُّ الحميد ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ القائل في محكم تنزيله ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الاَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلاَ تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ وأشهد أن لا إله إلاَّ الواحد الديان المتفرِّد بالعزَّة والجبروت، المتوعِّد الظالمين بقوله ﴿وَلاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُوَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الاَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ والصَّلاة والسَّلام على أعظم المبتلين، وأجمل الصابرين، وأسوة المحتسبين، ورحمة الله للعالمين محمَّدِ بنِ عبد الله القائل تسلية للمبتلين وتخفيفًا عن المصابين: ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ، الإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ دُونَ الْغَمَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ: بِعِزَّتِى لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، فاللَّهمَّ صلِّ على خيرِ من وارى الثرى بدنا، وسلِّم على أكملِ من كان للورى سننا، وعلى آل بيته الأكرمين، وأنبل صحبه أجمعين، وعلى من استمسك بحبل الله المتين، واعتصم بهدي نبيئه الأمين، مستعينا بالصبر والصلاة إلى يوم يقوم الناس لربِّ العالمين.

سعادة والي ولاية غرداية، حضرات أعضاء المجلس الأمني الولائي، أيُّها السادة الأفاضل النجباء كافَّةُ السلطات الإدارية والأمنية، والهيئات الدينية والاجتماعية، يا أيُّها الأماثل من بني قومي الأباة، ويا كلَّ نفس راضيةٍ بقضاء الفعَّال لما يريد، سلام عليكم تكنُّه الجوانح من ربٍّ غفور، ورحمة شاملة تحفُّها المدائح من برٍّ شكور، في هذا المشهد الرهيب الذي يلتئم في هذا المحشد المهيب، وهذا المعلم الرحيب مساء يوم السبت 11 صفر الخير 1435 هـ 14 ديسمبر 2013 م وقد وجلت القلوب، وذرفت العيون، وزاغت الأبصار، وراغت الأفكار بنبإ جلَّ كالقارعة، وخبر حلَّ كالصاعقة، حتى ما كاد المرء بالخبر استبعادا يصدِّق، ولا بالنبإ امتعاضا يحقِّق، لولا عقدة من الإيمان في القلب راسخة، وثقة في الملإ الأعلى شامخة، وكيف لا يصاب الكلُّ ذهولا شيبا وكهولا، والموت قد أفجعنا في الفتى الشهيد، والبطل الصنديد، والولي الودود محمَّد بنِ يحيى بنِ يحيى عبد الرحماني الذي فارق الحياة بعد عشرين يومًا قضاها يصارع سكرات الموت في غيبوبة كاملة، فانحبست الأنفاس وجلة تتابع في قلق حالته الصحية على مدار الساعة، خشية أن يكون الضحية التي اغتالته يد غادرة آثمة، في فتنة عمياء أوقد نيرانها شرذمة لنا غائظة، أحالت البلاد من بعد أمنها خوفا، وأورثت العباد من بعد ودادهم ضغنا، تحريقا وتخريبا وتهجيرا، وترويعا وتشميتا وتكفيرا، ألا تبَّت يدا كلِّ من أوقد وأيقظ، وشلَّت يمين كلِّ من سعى وفكَّر، وخطَّط ودبَّر، وحرَّق ودمَّر، وفحَّش وهجَّر، لكَّنه قضاءُ الله القاهر ولا رادَّ لقضائه، وحكمُه النافذُ ولا معقِّب لحكمه، وأمرُه الجاري ولا يسال عمَّا يفعل، وإنَّه الموت كان يترصد قاطعا كلَّ أجل، والحٍمام كان يتهدَّد رادعا كلَّ أمل، في غمرة من الفرح عاينت، وغفلة من المرح لاينت، ﴿ فَلَوْلآَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ﴾ فحمدًا لك في الحال والمآل يا من لا يحمد على مكروه سواه، وإنَّ القلب ليخشع وإنَّ العين لتدمع وإنَّ على فراقك يا محمَّد لمحزونون غير أنَّا لا نقول إلاَّ ما يرضي الربَّ، فـ ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمُ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُّطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ فما أحكم مشيئةَ الرحمن في كلِّ ما تأتي وتذر، وما أرحم عدالةَ الديَّان في كلِّ ما عظم ونزر، وما أتعس الإنسانَ إن هو طغى وكفر، ويا بشراه بالسعادة إن هو احتسب وشكر، تلك لعمري عظم المنَّة في المنية، وذلك إي وربِّي جزيل الثواب على عظيم المصاب ﴿ اِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ وإذ كان الأمر كذلك فـ:

دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ **** وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ

وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي **** فَمـا لِحَوادِثِ الدُنيا بَقـاءُ

أيُّها الأحبة الأكارم، ما أصعب الحديثَ عن موت نفس مؤمنة، وَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، فكيف والموت قد تصيَّد شابًّا من خيرة الشباب تقوى وصلاحا، وترصَّد فتى من خيرة الفتيان أسوة وفلاحا، خرج يدافع عن حمى إخوة له مؤمنين ومن قتل دون ماله وعرضه فهو شهيد، لقد أراد الإرهاب الأعمى اغتيال الفقيد في ميدان محمود نكاية به ومكرا، فأراد العزيز الحكيم له أن ينال في المقام المحمود وساما وفخرًا، لقد أرادوا للقتيل قبرا، وأراد الجبار أن يرفع له ذكرا، فمن منَّا كان يعرف الفقيد محمَّدًا قبل أن تُبرزه الأحداث فيغدوَ مذكورا على كلِّ لسان، ومحبورا بكلِّ بنان، حتى كانت تتابع نبضاتِ قلبه الأنينِ مخافةَ أن تتوقَّف كلُّ نفس في هذا البلد الأمين، ويراقب أنفاسَه المتبقية خشية أن تنفذ كلُّ إنسان في هذا الربع الحزين، ولا أدلَّ من هذا الحشد الكبير الذي ألقت فيه أركان الولاية بفلذات أكبادها إلى هذا المأتم الكبير معزية مسلية، مؤاسة مضحيَّة.

أيُّها الأحبَّة في الله، لنا في كلِّ موت عبرة جليلة، ولنا في كلِّ ميت فكرة جميلة، فما أرى الموت إلاَّ خاطفا كلَّ نفس مهما اشتدَّ بها الأمل، ودائلا كلَّ دولة مهما امتدَّ بها الأجل، وكلُّ نفس ذائقة الموت، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، فيا معاشر الناس أعدوا العدَّة قبل فوات الأوان، واستعدُّوا للرحيل قبل أن يُرفع للموت الأذان، فما تدري نفس بأي أرض تموت. وإيه يا زمان، وآه يا وجدان، لقد تغيرت الدنيا فصرنا نعيش أشراطها، وامتد بنا الزمان فعدنا نرى من الأجنَّة أوغادها، فكان القابض على دينه كالقابض على الجمر، يمسي المرء على الإيمان فيصبح على الكفر، لقد استبيحت الدماء، وانتهكت الأعراض، واستحلَّت الأموال، وتلك لعمري المحنة التي تدكُّ البلاد، والفتنة التي تنهك العباد، والإحنة التي تفتك الأكباد، فرحماك ربي ليس إلإَّ إليك الملاذ، ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي دار المعاد، ووفِّقنا إلى الشكر عند السراء، والصبر عند الضراء، فكلُّ شيء أردته وقع، وكلُّ شيء وقع كان كما أردت، وإرادتك متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمتك المطلقة متعلقة بالخير المطلق ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أكثروا من ذكر الله، واصبَغوا أنفسكم بصبغة الله، وليِّنوا قلوبكم بذكر الله ﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ﴾.

أيُّها الإخوة الأعزاء إنَّ الذين أشعلوا نار الفتنة في القرارة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة، لم يكونوا يقصدون حرقَ القرارة وحدها وتدنيسَ سمعتها وسمعة ولايتنا الطيبة غرداية التي سار بذكرها الركبان، وشاد بها كلُّ من زارها من السادة والأعيان، إنما كانوا يريدون أن يمتدَّ لهيب الفتنة إلى ربوع الجزائر كلِّها، حسدًا من عند أنفسهم أن تظلَّ قلعة صلبة آمنة، ودولة مستمسكة مطمئنة في عالم مريج، تتخطَّفه الطير أو تهوي به الريح مكان سحيق. فيا معاشر الإخوة المؤمنين لسنا دعاة فتنة، ولا بغاة إحنة، ولا سعاة ضغنة، نحن أبناء أمة الإسلام شعارنا السلم والسلام، وأنضاء الإيمان دثارنا الأمن والإيمان، لا نرضى لنهج بارئنا تعدِّيا، ولا نبغي لحكم خالقنا تحدِّيا، سبحانه إنَّه القائل: ﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ اِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبـِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّـئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ والقائل ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ اَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى اَلاِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ والقائل:﴿ اِنَّ رَبـَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ والقائل:﴿ وَلاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ والقائل:﴿ اِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ يُملي للظَّالم حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِته، والقائل ﴿ وَمَنْ يَّقْتُلْ مُومِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ فيا قاتل الروح وين تروح، فالسكينة السكينة، والوقار الوقار، والهدوء الهدوء معاشر الأحباب، لا نرضى لأحد أيًّا كان، ولأي دافع كان أن يركب أمواج القضية، أو أن يتجر بدماء الضحية، فمطالبنا جليَّة واضحة، ومساعينا حثيثة ناصحة، إلى قمَّة هرم سلطة البلاد راكضة، رعاية لمصالح المتضرِّرين، وإطلاقا لسراح المعتقلين، وتعزية لأسر المصابين، ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِـيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَـتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ﴾ فالسلطان بين الجموع حاضر، وعليه وحده لا لغيره القصاص، فما نطلب منه إلاَّ إقامةَ الوزن بالقسطاس، ونشرَ لواء العدالة بين الناس، بما آتاه الله من قوة وشدَّة بأس، هذا مطلبنا منه في دار الفناء، وموعدنا معه في دار البقاء، يوم تجزى كلُّ نفس بما تسعى، فما لنا من ركن شديد نأوي إليه بعد القويِّ القاهر فوق عباده سوى ركنِ دولتنا الأبيَّة وأمن عدالتنا الوفية، وحسبنا توكُّلا ترديدنا قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

يا أبناء عائلة الشهيد الصابرين، والدة ووالدًا، وزوجة وولدا، وإخوة وحفدة، ماذا عسانا نقول لكم وأنتم المصابون المفجوعون، وبماذا نسلِّيكم وأنتم التقاة المحتسبون، فما لنا من بيان مسلٍّ سوى الركونِ إلى كلام المولى، والسكون إلى حديث المصطفى، فلكم ولأمثالكم ممَّن آثرهم الرحمن واصطفى، نعمَ البشرى ونعمت الزلفى، فاستمعوا لما قال وأنصتوا، وثقوا بمن قال واحتسبوا: وكفاكم تعزيةً تعزيةُ من لا ينطق عن الهوى لسيِّدنا معاذ بن جبل في وفاة ولد له: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى معاذ بن جبل، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإنَّ أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، يمتِّع بها إلى أجل ويقبضها إلى وقت معلوم، وإنَّا نسأله الشكر على ما أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، متَّعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير، الصلاة والرحمة والهدى إن احتسبته فاصبر، ولا يحبط جزعك أجرك فتندم، وأعلم أنَّ الجزع لا يردُّ ميتا ولا يدفع حزنا وما هو نازل فكان قدرا، والسلام. فاحتسوا أبنكم يا أهل الفقيد على الحوض فَرطا، وإيَّاكم أن تُسلموا لنوازع الوساوس، وتُنصتوا لنوازغ الخناس فيكونَ أمركم فُرطا.

هذا وإنَّني أصدقكم القول أيُّها الجمع الكريم إنَّنا لمَّا تلقَّينا نبأ وفاة محمَّدٍ مساء الخميس عن طريق رئيس الدائرة المحترم في مكتبه صعقنا جميعا إذ انتابتنا حيرة شديدة وفجعة أليمة، كيف نخبر أهله بالوفاة، كيف يكون وقع النبإ عليهم وعلى الناس، كيف تنظم الجنازة في أمان، وبعد الانتهاء من وضع البرنامج غادرنا مقرَّ الدائرة في حيرة كيف نخبر أباه، كيف تكون ردَّة فعله، لكنَّنا لمَّا نعينا إليه ابنه وجدناه صابرا نعم العبد إنه أوَّاب، وألفيناه محتسبا أمره عند مولاه مبتغيا رضاه، لم تزعزع رواسخَ إيمانه عواطفُ الحزن على وفاة ابنه، فصعقنا مرة أخرى لهذا الصبر الجميل والإيمان الأصيل، والاحتساب المثيل، فصرنا بدل أن نعزيَّه على فقدان فلذة كبده نهنئه على أن أبلغه الله تعالى حقيقة الإيمان كما قال النبيء لِكُلِّ شَىْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فطوبى له وحسن مآب.

أيُّها الجمع الكريم، إنَّها النكبة كبرى، وإنَّها النفوس جزعى، وإنَّهنَّ الأرامل ثكلى، وإنَّهم الأيتام جوعى، فليست المؤاساة تعزيةً تلفِّقها الألسنة، أو تتشدَّق بها الأفواه، أو تذرف بها الدموع، وإنَّما المؤاساة الحقُّ رعاية الأرملة، وكفالة اليتيم، وكفاية المحتاج، وإعالة الجائع، وإغاثة الملهوف وفي هذا فليتنافس المتنافسون، ولمثل هؤلاء فليقم القائمون، وفي مثلهم فلينفق المنفقون، ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ اَوِ اِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ اَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ

أمَّا فقيدنا الذي عاش مسكينا ومات مسكينا وسيحشر مسكينا فهذه ترجمة مختصرة لحياته:

ولد محمَّد بن يحيى عبد الرحماني يوم 26 جوان سنة 1983 بالقرارة من عائلة مؤمنة تقيَّة، زاول تعليمه الابتدائي بمدرسة الحياة الحرة وبمدرسة الشيخ الحاج عمر بن يحيى الرسمية، ثم التحق بإكمالية ابن خلدون لمتابعة مرحلة الإكمالي، ثم بثانوية الشيخ بيوض لمرحلة التعليم الثانوي، تحصَّل على دبلوم الكهرباء المعمارية من مركز التكوين المهني بالجزائر العاصمة، انضمَّ إلى منظمة الكشافة الإسلامية الجزائرية صغيرًّا فتدرَّج بين صفوفها إلى أن صار قائدا متميِّزًا في أفواج الجابرية.
تزوَّج في سنة 2011 فرزق بولد سمَّاه داود، نرجو أن يكون نجيبا يحيي ذكر والده لبيبًا، يتمتَّع بروح إسلاميَّة صادقة جعلت منه رجلا عفًّا تقيًّا، يتميَّز بدماثة أخلاق عالية وبخاصَّة خلق التضحية والإخلاص والتفاني في فعل الخير أكسبته محبَّة معاشريه.

توفي رحمه الله يوم الخميس 9 صفر الخير 1435 هـ 12 ديسمبر 2013 م تغمَّده الله برحمته وأسكنه فراديس جنانه.

هذا فإذا كانت الترجمة صغيرة في شكلها فإنَّها كبيرة في مضمونها، وإن بدا وضيعا في عين العباد فإنَّه رفيع في عين ربِّ العباد الذي يقول: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلآَ أَوْلاَدُكُم بِالتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنَ ـ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ

معاشر السادة المكرمين، جرت العادة عند وقوع المظالم وحدوث المناكر أن ننهى عن المنكر على رؤوس الأشهاد في المساجد، فما حدث اليوم منكر عظيم يستوجب النهي عنه معذرة إلى الله، فردِّدوا معي ننهى عن المنكر، ننهى عن المنكر، ننهى عن المنكر.

أيُّها السادة الأفاضل باسم حلقة العزابة الموقرة، وباسم أعيان قصرها، وباسم كلِّ الجمعيات الحرة الخيرة، وباسم كلِّ الطيِّبين من سكَّان القرارة جمعاء، وباسم كلِّ ذي كبد رطبة تجأر إلى الله ضارعة، نتقدَّم بالتعزية الخالصة إلى أنفسنا أوَّلا ونحن المفجوعون، وإلى أسرة الفقيد، وأهله الأقربين ثانيًا، وإنَّا وإيَّاهم جميعا لمحزونون، وحسبنا تأسية بشارة فالق الحبِّ والنَّوى: ﴿وَلاَ تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلَ اَحْيَآءٌ عِندَ رَبـِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمُ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ كما نشكر لكلِّ الوافدين إلينا من كلِّ حدب وصوب تحمُّلَهم مشاقَّ التنقل لأداء واجب العزاء، وفي ذلك تخفيف من أحزاننا، وتفتيت لمصابنا، فحفظكم المولى الرحيم يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، وصلَّى عليكم البرُّ الكريم طرفي النهار وزلفا من اللَّيل، فلا أراكم مكروها فيمن تحبُّون، ولا أجزع نفوسكم فيما تأملون. فاللهمَّ جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهمَّ إنَّا لا نسألك ردَّ قضائك ولكن نسألك اللُّطف فيه، فنجنا يا حليم، وارحمنا يا رحيم، ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ آمين آمين ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلآَئِـكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيءِ يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليما كثيرًا

﴿سُبْحَانَ رَبـِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

القرارة مساء السبت 11 صفر الخير 1435هـ 14 ديسمبر 2013م
عيسى بن محمد الشيخ بالحاج أستاذ بمعهد الحياة

المصدر مزاب ميديا

إضافة تعليق