أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - كلمة جنازة الشهيد قبايلي بالحاج بن داود

أحداث ومحطات

الأربعاء 22 جانفي 2014

كلمة جنازة الشهيد قبايلي بالحاج بن داود

د. مصطفى بن صالح باجو

بسم الله الرحمن الرحيم

" تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمُ أَيُّكُمُ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" الملك: ١ – ٢

لا إله إلا هو، الملك العزيز الجبار، له الحمد وحده في الرخاء وعند الاضطرار،

لا يحمد على مكروه سواه، وهو يجيب المضطر إذا دعاه.

له الأمر وبيده الخير، وإليه المصير، وهو الصادق في كتابه العزيز:" مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الاَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" الحديد: ٢٢

 سبحانه له الملك والملكوت وله العزة والجبروت، وهو حيّ قيوم دائم لا يموت.

آمنَّا به ربًّا عليما حكيما، وإلها قادرا عظيما، خلق كل شيء فقدَّره تقديرا، وتوعّد الظالمين جهنم وساءت مصيرا. وكان للمظلومين مؤنسا ونصيرا، وطمأنهم بمصير من عتوا وعاثوا في الأرض فسادا كبيرا: " وَلاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُوَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الاَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ " إبراهيم: ٤٢ - ٤٣

ثم قال عن جرمهم: " وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ" إبراهيم: ٤٦

وختمها ببيان مصيرهم المشؤوم: " وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الاَصْفَادِ(49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىا وُجُوهَهُمُ النَّارُ(50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتِ اِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ"  إبراهيم: ٤٩ - ٥١

وأصلي وأسلم على سيد الشاكرين وإمام الصابرين، محمد بن عبد الله المنيب الأواه، اصطفاه ربه واجتباه، وبرغم مقامه عند ربه فقد ناله صنوفُ البلاء، وتآمر عليه الأعداء، فكان رغم اشتداد الأهوال قدوة للعالمين، اعتصامًا بالله بمنتهى اليقين، وتوكّلا عليه في كل حين، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

*****

 أيها الجمع الحاشد في هذا الموكب المهيب، سلام عليكم تحفّكم به ملائكة السماء، وتؤمّن على ما نرفع من خالص الدعاء، ونحن نودع أحد أبناء أمتنا البررة، وأنفسنا إلى الله خاشعة، وقلوب الجميع مُؤمنةٌ ضارعة، تستمطر الرحمات لشهيدنا الزكي في الشهداء، وتلح سائلة رب الرحمة والمغفرة والعطاء، أن يغمره بسابغ رحمته مع عباده الصالحين والأولياء.

كما ندعوه وهو رب العظمة والنقمة والكبرياء، أن ينتقم ممن استباح حرمة دمه وطعنه تلك الطعنة النجلاء، في هجمة وحشية نكراء، استهدفت رجلا أعزل، وهو يدافع عن عرضه وأرضه، ولم تَرْعَ دينًا ولا حُرمةً ولا جوارا، ولم تخش ربّا منتقما جبارا، وأنساها حقدها الأعمى وعيد القاتل ظلما وعدوانا، وأن يذيقه الجبار من أليم العذاب ألوانا: " وَمَنْ يَّقْتُلْ مُومِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" النساء: ٩٣

إن هذا لظلم عظيم، وجرم تزلزل له الجبال، وصدق المصطفى فيه حين قال: 

" لزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم امرئ مسلم بغير حق ".

وإنها والله فتنة عمياء أصابت وطننا، وحوّلَتْهُ في زمن قياسي من ملاذ آمن للخائفين، إلى سفينة تتقاذفها الأمواج في بحر من الفتن، بلغت القلوب فيها الحناجر، بسبب شرذمة من الأشرار الأشقياء، أرادونا كبش فداء، لمآرب دنيّة وأغراض شيطانية، فانتهكوا الحرمات واستباحوا المحرمات، وكان الحرق والتخريب، والترويع والتهديد، والقتل والتشريد.

فاللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، يا قادر ياقهار.

اللهم وأرنا فيهم عجائب قدرتك يامنتقم يا جبار.

حسبنا الله ونعم الوكيل. حسبنا الله ونعم الوكيل.

إن المصاب إخوة الإيمان جَللٌ، تُزلزل له الجبال، وإن الفقيد شاب طيَّب من خيرة الرجال، وهذه الفتنة نار عمياء عصفت بالبلاد وحيرت العباد، وأذهلت العقول لولا عاصم من الإيمان بقضاء الله الغالب، ويقينٌ بعدله وقدرته على كل ظالم وغاصب. فإلى حصن الإيمان ملاذنا، وبحبل الله لا بسواه اعتصامنا، فإيماننا بعدل الله واقينا، فهو حافظنا وناصرنا يقينا.

ويا فوز من استمسك بحبل الله حين تزلزل القلوب ويختبر أهل الإيمان، فاسترجع وصبر، ورضي بالقضاء والقدر،" وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " فصلت: ٣٥.

أجل، إن مصابنا فيك يا عزيزنا الشهيد بالحاج، مصاب عظيم، وخيمت علينا ظلمات في بحر لجي متلاطم الأمواج، وإن القلب ليتفطر خشوعا، والعين لتفيض دموعا، ولكننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا: فـإنا لله وإنا إليه راجعون. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فاللهم ثبتنا في محنتنا، واعصمنا في خضم هذه الفتن أن نزل أو نُزَل، أو نَضل أو نُضل.

واللهم آجرنا في مصابنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واقدر لنا ما فيه خير لنا، وأجرنا من خزي الدنيا ومن العذاب المقيم، إنك أنت العليم الحكيم، الغفور الرحيم.

*****

 ثم إليكم أيها الأحبة بطاقة تعريف وجيزة لشهيدنا الرضي بإذن الله، فهو قبايلي بالحاج بن داود بن بلحاج، من مواليد غرداية يوم 4 ماي 1974م، متزوج وأب لابن وثلاث بنات، عامل في مجال البناءو قد أدى واجب الخدمة الوطنية خلال جانفي 1995 وجوان 1996م.

يشهد له عشراؤه بحسن الخلق والتواضع وحب الخير. والتضحية في سبيل العمل الخيري ونفع عباد الله، عاش بعيدا عن الأضواء، وقضى حياته يعمل مجاهدا مغمورا، فرزقه الله الشهادة، ومضى بها إلى ربه علما مشهورا. والعبرة بالخواتيم، فاعتبروا أيها الواعون الفضلاء، فاللهم اختم الله لنا بخواتم الصالحين والشهداء والسعداء.

إخواني  الأعزاء، لقد جرت سيرة سلفنا الصالح في مثل هذه النوازل أن يؤوبوا إلى الله مستغفرين، ويتبرؤوا من هذه المظالم منكرين، فرددوا معي رحمكم الله أجمعين: ننهى عن المنكر، ننهى عن المنكر، ننهى عن المنكر.

ربنا إنا نسألك ضارعين أن ترينا في هؤلاء المعتدين عجائب قدرتك يا قوي يا عزيز، ياناصر المظلومين.  فما لنا سواك ناصر ولا سند ولا معين، يا أرحم الراحمين.

*****

 ولئن بلغ الخطب المدى فلا نملك أن نتجاوز حدودنا، ولا أن نقول أو نفعل إلا ما يرضي ربنا، فالسكينةَ السكينةَ عباد الله، والحذرَ الحذرَ أن يستفزكم نازغ أو داع إلى انتقام، فينفلت الزمام، ونقع في ما حرم الإسلام من اعتداء أو انتهاك للحرمات، فنكون مع الجاني سواء، ونفقد معية الله،  ونحرم إجابة الدعاء. والمحروم من حُرم الثواب، ومن دعا فلم يجد الجواب.

إن أهم ما نحرص عليه أحبتنا الغيورين المخلصين عبر تاريخ أمتنا الناصع، التورعُ عن سفك الدماء وعن الأموال الحرام، فإن مظالمها وخيمة العواقب، ونارها لا تبقي ولا تذر، حتى ترمي بأصحابها في سقر، والعياذ بالله.

إن للشهيد حقَّه المقرر شرعا وقضاء، ولأوليائه سلطان المتابعة والمطالبة بحقهم كما قرره الله وأكدته القوانين، ولا تدفعنا الحمية أن نفقد الرشد والروية. فإن لنا في كتاب ربنا نورا يهدينا إذا أظلمت المسالك، وفي سيرة نبينا وسلف أئتمنا قدوةً ودليلا يحمينا من المهالك. فلا انتقام ولا اعتداء، ولكن مطالبة بعدل الجزاء، يتولاه الأولياء مع أجهزة القضاء، 

واستذكروا أن جزاء الله لن يفلت أحدا، "ويا قاتَلْ الرُّوحْ وِينْ تْرُوحْ"، وإن تحصنت بأعالي الجبال، فسوف تُفضح اليوم أو غدا وتكون عبرة للأجيال.

ويقيننا أنْ سوف تُجزَى كل نفس بما كسبت جزاء موفورا، فاستحضروا وأنتم في هذا الجمع الحاشد موقف الحشر وأهواله وما فيه من الشدائد، ووعيد الحق لمن بغى وسعى في الأرض بالظلم والطغيان، فإن حساب الله عسير،  على كل ما نطق اللسان واكتسب الإنسان، يوم لا تنفع شفاعة ولا "معرفة" ولا "نيشان".

أجل، إن الموت نهاية الأجل، وموعد حق ينتظر كل أحد، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، فاستعدّوا له قبل أن يبغتكم، ولات حين رجوع ولا توبة ولا ندم.

تلك زبدة الفوائد من شهود هذه الجنائز، ومن وعاها فهو اللبيب الفطِن الفائز.

ولئن تحدث الناس عن ظهور أشراط الساعة، فلكل واحد منّا ساعته المنتظرة،  فهل أعددنا العدة ليوم الرحيل والوقوف بين يدي رب العالمين، وهل يغفل عاقل عن مطارد يترصده كل حين؟.

لنعقدِ العزم الصادق على التوبة النصوح في أسرع الآجال، ولا يغرّنا الشباب ولا الصحة ولا المال، فإن نذير الموت لا يميز بين المراتب ولا يفاضل بين الوجوه، وهذا فقيدنا في ريعان الشباب مَثَلٌ حيّ لكل عاقل يوقن بما بعد الموت من خلود في دار النعيم، أو عذاب مقيم في الجحيم، والعياذ بالله.

*****

  أيها الملأ الصابر الشاهد، إنكم قلوب ضارعة، وألسنة داعية، فالهجوا إلى العلي القدير، أن يكلأ شهيدنا برحمته الواسعة، ويُخلِف على أهله وبراعمه الوادعة، عناية ورعاية، وحنانا واحتضانا، ولنَسْعَ جميعا في هذا العمل المقدس النبيل، حتى يُصدّق فعلُنا قولَنا بخير دليل، فإن الرحمة بالثكلى واليتيم، مما يمنح صاحبه جوار الحبيب في دار النعيم.

وإنا نرفع إليك أيدينا يا إلهنا، أن تُعظِم أجرنا في هذا المصاب، وتُخلِف لأهله وذريته خيرَيْ العاجل والمآب، وتكفينا شرّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتردّ عنا كيد الظالمين والكائدين والحاسدين، وتنصرنا على من بغى علينا، وتجعل كيدهم في نحورهم، وتحفظ أوطاننا وشبابنا الغيورين، ورجالنا المخلصين، وتجمع كلمتنا على الحق المبين، وتجعل هذا الامتحان، كفارة للذنوب، وسببا لنا أن نتوب، وتمنحنا به تطهيرا للقلوب، وتوحيدا للصفوف، ومراجعة للذات، وعودة صادقة إلى رحابك بإخلاص وثبات. وتختم لنا بخواتم الصالحين والصالحات.

اللهم فأنعم على فقيدنا برضوانك في جنات ونهر،  مع الذين أنعمت عليهم  من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

*****

  تعازينا جميعا لوالديه وأهله وأولاده وإخوانه وأصهاره والأقربين.

ختاما، أطمئنكم إخوتنا الأعزاء أن صلاتكم وحضوركم مشاركة كافية في تعزية أهل الفقيد، وإنهم يتقبلون منكم ذلك، ولا داعي لإحراجكم بالتعزية الخاصة، جعل الله شهودكم شهادة لفقيدنا عند الله، وثقلا في ميزان حسناتنا يوم نلقاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

*****

 

 وكتبه مصطفى بن صالح  باجو

كلمة ألقيت بتكليف من لجنة الأعيان التي تولت ترتيب الجنازة

صباح الإربعاء 20 ربيع الأول 1435هـ يوافقه 22 يناير 2014م

بمقبرة الشيخ بابا السعد.

وكانت جنازة مشهودة مؤثرة بالغ التأثير. والبقاء للواحد العلي الكبير.

إضافة تعليق