أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - وسائط إعلامية - مقالات مكتوبة - وحدة المسلمين في قاعة الانتظار..!

مقالات مكتوبة

الخميس 30 أفريل 2009

وحدة المسلمين في قاعة الانتظار..!

د. مصطفى بن صالح باجو

الإسلام آخر رسالات الله إلى البشر، جاء دين توحيد في المعتقد والتصور والسلوك. وتوحيد بين أواصر الناس، وتنظيم علاقاتهم بأنفسهم وبالخالق العظيم، تميـز هذا الدين بالوضوح والنقاء في جوهره ومخبره، في أصوله وفروعه، والثبات في المبادئ والركائز، والحزم في التطبيق والعمل، جاء ليحقق سعادة الإنسان المنشودة، ويربط الأواصر بين الناس وفق منهج واضح المعالم والقسمات، عادل في توزيع الحقوق والواجبات، وكانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تجسيدا لهذه المبادئ والقيم، وتطبيقا عمليا لتعاليم القرآن في واقع الحياة.

 

وكان نتاج هذه المدرسة تخرج جيل فريد في تاريخ البشرية، وبناء مجتمع كان ولا يزال مطمح الناس، والمثل الأعلى لمن ينشد السعادة في الحياة، ورغم ما حدث من أخطاء في الحياة الفردية والجماعية لبعض أبناء الجيل الأول، جيل الصحابة الكرام، فإن تلك الأحداث بمجموعها لن تنال من المبادئ السامية للنموذج البشري الذي ضربوه، وللمستوى الخلقي والحضاري الذي حققوه.

 

ولكن ثمة حقيقة مرة لا تُنكَر، وهي الإقرار بالثقل الكبير والأثر الخطير الذي تركته أحداث الفتن في تلك الحقبة على العصور التالية، وما خلفته من دخان كثيف في ضمائر وعقول أبناء الإسلام، مما حجب عنهم رؤية بعضهم على الصورة الحقيقية، وحال دون تحقيق وحدتهم التي جاء الإسلام لتحقيقها، وجهد الرسول صلى الله عليه وسلم لتجسيدها، وتراكمت آثار الفتنة عبر القرون وتركت بصماتها بارزة في الإنتاج الفكري لعلماء المسلمين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، ثم توارثت الأجيال تلك الآثار، وأحاطتها بهالة من الإجلال والإكبار، حتى أضفت عليها طابع القداسة، فغدت وكأنها تنـزيل من حكيم  حميد، ومن أخطر مجالات هذا الأثر، كتب العقائد وتاريخ الفرق والمذاهب، وهو بالطبع من صميم المواضيع التي كرست التشرذم ووسعت الهوة، وأقامت جدرا من حديد بين أبناء عقيدة التوحيد.
 
ومردّ ذلك ليس إلى طبيعة القضايا والموضوعات المدروسة في ثنايا هذه المؤلفات، بل إلى المنطلق والرؤية التي يصدر عنها  أصحابها، وعنها صدرت عنها هذه الكتب، هذه الخلفية الفكرية التي يحملها هؤلاء الكتاب تجاه فئته وتجاه من يخالفها الفكرة والاتجاه، من المذاهب والفرق والجماعات، سواء كان اختلافها يسيرا، أم كبيرا، تتجلى آثارها واضحة في آثار هؤلاء المؤلفين، ومن منطلقها كانت تصدر تلك الآثار، وعلى ضوئها تفسر الأحداث وتحلل الأفكار وتصنف الفئات والأفراد.

 

والعجيب في الأمر أن هذه الكتب أفرزت لنا مئات المجموعات والفرق في مسار تاريخ الإسلام، استنادا إلى حديث الافتراق، وهو حديث لعلماء الرواية فيه كلام، وكثير من هذه الفرق لا يتعدى مستند تصنيفها رأيا نشازا أبداه رجل عرضا، وربما في مجلس خاص، أو كان سائرا في الطريق، وقد يتطور الأمر ببعض هذه الآراء لتصبح ذات خطر ولها أتباع كثيرون، وتنجم عنها زوابع، وأحيانا زلازل في مسار الفكر الإسلامي، وفتنة اصطلى بنارها عدد غير يسير من أعلام الإسلام، ولا أدل على ذلك من قضية خلق القرآن وفتنة الناس بها بتوجيه من المعتزلة في عهد المأمون.

 

كما تركت هذه الفتن آثارها وندوبها في الضمير الجمعي للأمة، وأصبح الخلائف يتصرفون أزاءها من منظور انتقامي حينا، وتبريري حينا آخر، وتعصب في كثير من الأحيان، وتوارثَ الخلف هذه الأفكار بما احتف بها من إطار تاريخي، ومنطلقات اجتماعية وسياسية، وأرادوا إسقاطها على الواقع المعاصر، فتناسخت الأحداث، وإن تجددت الأيام والتواريخ.

 

والأدهى في هذا المسار الشائك في تاريخ المسلمين، أن غدا الخروج عن هذا السَنن خرقا للقواعد، وجرأة على الأوائل، وهدما للأصول، وابتداعا في الدين، يُتَّهَم صاحبه بكل نقيصة، ويُرمى بكل تهمة عرفها تاريخ الفكر الإسلامي من إرجاء واعتزال وخروج وتشيع، وثلب للسلف، واتباع للهوى، وانبهار بالغرب وانسياق وراء بهرج حضارته الزائف.

 

وما عهد الناس بالشيخ محمد الغزالي ببعيد، يوم أخرج لهم كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، فقامت دنيا بعض الناس ولم تقعد، ممن لا يرتضيهم إلا نسخ التاريخ رمته، بل وتسليط العدسات المكبرة على بعض أخطائه، لتغدو المعيار السليم، والميزان الطريس، لغربلة إيمان الناس ومدى التزامهم بهذا الموروث، أجل هم يريدون التحاكم إلى موروث الفكر الإسلامي بكل ما فيه، وإن تنافى في بعض موازينه مع قطعيات الأدلة وكليات الدين من النصوص الصريحة الثابتة في القرآن وسنة الرسول الأمين، ولكن الحق أبلج، ولا بد من بزوغ الفجر مهما طال الظلام، والله يقيّض للحق من ينصره، وإن تمالأ الخلق على خذلانه.

 

ومن ذلك ما صدر مؤخرا عن "مركز الدراسات التاريخية" بالأردن للأستاذ حسن بن فرحان المالكي، بعنوان "قراءة في كتب العقائد، المذهب الحنبلي نموذجا"، هذا النتاج الفكري الجريء الذي امتلك صاحبه من الشجاعة الأدبية ما حمله على تسليط الأضواء على تراث الفكر السلفي، ونقده وتقويمه، وتجلية ما فيه من نقط ضعف في جرأة غير مسبوقة من أبناء مدرسة إسلامية ذائعة الصيت واسعة النفوذ، مكنتها ظروف تاريخية واقتصادية وسياسية مناسبة من بسط سلطانها على رقعة واسعة من العالم الإسلامي، والمؤلف يصرح بأنه من أبناء هذه المدرسة، والمذهب، فهو نتاج السلفية وابن المذهب الحنبلي، ولكن رغبته الصادقة في الصدع بالحق، حملته على أن يقول للمصيب أصبت ولو كان خصما لدودا، وللمسيء أسأت ولو كان صديقا ودودا، ولم يشأ أن يظل أسير تقليد، أو تقديس لأشخاص، وينكفئ على نفسه، اقتناعا بانتماء ضيق يحجب عنه أشعة الحق، ويلجم لسانه عن الصدع بكلمة إنصاف، يرسلها تبرئة للذمة، وأداء للواجب، وإنصافا للتاريخ.

 

وكان لهذه الجرأة دوافع موضوعية علمية وإيمانية، حملت صاحبها على المغامرة والمخاطرة، ولكن الصدع بالحق كان رائده في ما كتب، ولو كلفه ذلك تبعات ثقيلة على  المدى القريب، فإنه فتح سبيلا لمراجعة متأنية لموروثنا الثقافي والفكري، وفق موازين القرآن الصريحة والسنة الصحيحة، وتمييز الغث من السمين، والعدل في إصدار الأحكام وفق الدليل، ولو على أقرب الأقربين.

 

وقد تضمن الكتاب فصولا ضافية ناقش فيها المؤلف فكر هذه المدرسة، بدْءًا بمصطلح العقيدة بين السنة والبدعة، وعودة إلى الجذور السياسية للخلافات العقدية، عبر المحطات والمنعرجات الحاسمة في مسار الحكم في تاريخ الإسلام، وبخاصة في الصدر الأول ودور هذه الأحداث في نشأة الآراء وتصنيف المسلمين، وظهور التيارات الكلامية والفكرية وأثرها في توجيه الإنتاج الفكري لعلماء الإسلام، ثم خص الباحث فصلا لنقد المذهب الحنبلي في العقيدة، والتنبيه إلى خطورة وقوع بعض الفرق في التناقض، إذ يرمون غيرهم بتهم وهم أنفسهم متلبسون بها، كالتبديع والتكفير، والتجسيم والتشبيه، والافتراء على الخصوم، والغلو في الأئمة والصالحين، والتزهيد في التحاكم إلى  الكتاب والسنة، والاحتكام إلى أقوال الرجال واجتهادات البشر والاستدراك على الشرع، باشتراط فهم السلف للكتاب والسنة، وأن هذا الفهم هو المرجعية المعتمدة لتمييز الخطإ والصواب عند اختلاف الناس، إذ يعدّ البعض فهم السلف وحده المعيار، وليس نصوص القرآن وسنة المختار.1

 

ويؤكد الباحث المالكي أنه "ليس هناك أي خطإ أو تناقض أن يقوم مسلم بنقد أخطاء المسلمين، لإن الإسلام غير المسلمين، ومن ذلك أن يقوم سُنّيٌّ بنقد أخطاء أهل السنة، لأن السنة غير أهل السنة، ومن ذلك أيضا أن يقوم حنبلي -النشأة والتعليم والالتزام العام الواعي- بنقد أخطاء الحنابلة، لأن الحنابلة غير أحمد، مع أن أحمد بن حنبل بشر يخطئ ويصيب، وهو الذي حث أتباعه على ترك التقليد،... وكان يقول: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وخذوا من حيث أخذوا"2

 

ويتوقع الكاتب رد فعل غير متزن من بعض المتزمتين المنتسبين إلى المذاهب، ممن يرون في آرائها جملة وتفصيلا عين الحق والصواب، وكل محاولة لمراجعتها تعني تقويض الدين من الأساس، وتفاديا لهذا المحذور، ترجّى الكاتب فهم مراده حتى لا يؤول على غير وجهه الصحيح، "وعلى هذا الأساس ليسمح لي الإخوة الكرام أن أبين أن ما نفعله، -أنا وبعض الباحثين- من نقد ذاتي لبعض جوانب الغلو أو المنكر داخل كتب أو فكر الحنابلة هو من هذا الباب، ونحن لا ننتظر موافقة أحمد ولا الشافعي ولا غيرهما على تصحيح خطإ أو رد باطل، ولكن من توفيق الله عز وجل للأئمة أنهم يأمرون أصحابهم بمحاكمة أقوالهم للكتاب والسنة، ويأمرونهم بترك التقليد، فيكون المستجيب لدعوتهم أوضح في الالتزم بمنهجهم ممن يقلدونهم ويأبون رد بعض أخطائهم"3

 

وفي هذا المقام يحسن الاستشهاد بقطعيات القرآن من مثل قول الحق سبحانه: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ"4، وأكدها في آية أخرى قائلا: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ"5، وهو توجيه إلزامي للمسلمين بقبول قولة الحق ممن جاءت، واتباعها ولو أفضى ذلك إلى إغضاب الأهل والأقربين، لأن المعتبر رضوان رب العالمين، ويصرح الكاتب أننا "جميعا نُقرّ بهذا من  الناحية النظرية، لكن يبقى اختلافنا في درجة التطبيق العملي، والتطيبقُ من حيث الجملة دون المأمول بكثير، والمسلمون جميعا يعانون من تخلف الأقوال عن الأفعال، وقد يُؤذُون من حاول التطبيق الصحيح لهذا المنهج القرآني"6

 

وفي صراحة غير معهودة من جل الكتاب المسلمين، يجلّي الباحث أن المذاهب في الإسلام كالقبائل، ليس فيها خير محض، ولا شر محض، وإنما يزداد الخير بزيادة الدعاة إليه، ويزداد الشر بزيادة الدعاة إليه، كما ينقص الشر بقيام عقلاء يذمونه وينهون الناس عنه، وإن وجه نقد إلى مذهب من المذاهب فلأنه اجتهاد بشر، يصيب ويخطئ، أما الإسلام فهو الحق المطلق والصواب الكامل، الذي لا يجوز نقده أو تخطئته، وليست الأخطاء حبيسة مذهب بعينه، فهي قاسم مشترك في مذاهب المسلمين، وعلى الجميع التعاون لتصويبها، وإقرار الحق الموجود في هذه المذاهب. والتحلي بسعة الصدر في قبول النقد العلمي النـزيه، من أي أحد كان، ما دام عماده الدليل، وهدفه ابتغاء مرضاة الله، وينحو الباحث باللائمة على النظرة الضيقة لدى البعض من توجيه التهم للآخرين، والتناقض بارتكابها عن شعور أو غير شعور، لأن التعصب يعمي بصيرة صاحبه، فيرى ذنوب خصمه كالجبال الراسيات، ولا يرى كبائر نفسه إلا حسنات.

 

فالاعتراف المتبادل بتوزيع الصواب والخطإ بين المذاهب يحمل على الإنصاف وعدم ادعاء احتكار الحقيقة، "لأن كل أصحاب مذهب لا يعرفون التواضع إلا إذا عرفوا أخطاء مذهبهم، وهذا التواضع يدفع أصحاب المذاهب لتصحيح مذهبهم قبل الاشتغال بنقد الآخرين، وثمرة هذا أنه لن تكون هناك ثمرة من اتهامنا الآخرين كالخوارج، بالتكفير إذا كنا نكفر بعض المسلمين، ولا فائدة في اتهام المرجئة بالإرجاء إذا كنا مرجئة في بعض الجوانب، ولا فائدة في  اتهام الآخرين بالطعن في الصحابة إذا كنا نطعن في بعض الصحابة، أو نسوّغ طعن بعض الناس في بعض الصحابة، كما لا فائدة في ذمنا من يغلو في الصالحين إذا كنا نغلو في أئمتنا وصالحينا"7

 

ومرد الأخطاء التي وقع فيها أتباع المذاهب ناتج في أحيان كثيرا لمواقف شخصية وحزازات تاريخية، وأحداث مؤقتة أخذت طابعا مستمرا، فألقت بظلالها على الفكر والنتاج العلمي، ثم اكتسب طابع القداسة، وغدت من أصول الدين، واستعملت معاول لهدم وحدة المسلمين، ولذا وجب تصويب الأمور بوضع هذه الأفكار والآراء والمواقف في إطارها التاريخي، وتوضيح ملابساتها الزمانية والمكانية، وأسبابها الثقافية والاجتماعية، حتى تكف عن مفعولها التهديمي لصرح الأمة الإسلامية.

 

فالصراعات السياسية والمذهبية ولدت تضخيما في بعض قضايا العقيدة وتوسيعا في مسائلها، وتنازعا بين العلماء في مجادلات ومناظرات، متسلسلة، أصابت شرارتها فئات المجتمع وعوام الناس، وشاع الانتصار لهذا العالم أو ذاك، وهذا الرأي أو ذاك، "وتفرق المنادون بها طوائف متناعة يكفر بعضها بعضا، ويبدّع بعضها بعضا، ويستحل بعضهم دماء بعض وخرجت العقيدة من وظيفتها التي كان ينبغي أن تؤديها من عبادة الله وحده، ومعرفة عظمته ومحبته وطاعته... إلى عمل فكري محض يورّث القلوب قسوة وشكوكا، والأمة فرقة وأحقادا، حتى أصبحت العقيدة في الأزمنة المتأخرة لا تعني عند الكثير من الناس إلا تتبع بعض المسلمين كالسلفيين أو الأشاعرة، ما يرونه من المخالفات الفكرية عند غيرهم من المسلمين، مع تناسي الأخطاء الكبيرة لأفكارهم، ثم إتباع ذلك التتبع بالتكفير أو التبديع والتضليل والتفسيق، مع الاستعداء السياسي والاجتماعي!!"8

 

وفي مسعى محمود لتصويب انحراف المسار الخطير، يقول الأستاذ الفاضل: "فلا بد من أن يشعر أصحاب كل مذهب أن مذهبهم ليس بمنأى عن الأخطاء، كبيرة كانت أو صغيرة، فإذا شعرنا بأخطائنا كان عندنا الاستعداد التام للتصحيح والتواضع والرحمة بسائر المخطئين، أما إن شعرنا بالتفرد بالصواب وأننا فقط الناجون يوم القيامة، فهذا أول الأخطاء المنهجية الكبيرة، بل هو من أعظم الأخطاء التي يجب علينا تصحيحها، ولن نصححها إلا إذا عرفنا الأخطاء التفصيلية التي تحتوي عليها كتبنا، ووقع فيها بعض علمائنا في الماضي، نتيجة خصومات مذهبية أو اجتهادات خاطئة، ثم صارت منهجا لنا أبعدَنا عن النظرة الموضوعية للأمور، ووضع الخطإ في مكانه الصحيح دون إهمال للأصول الإسلامية الجامعة بين المسلمين، ولن نعرف الأخطاء التفصيلية إلا بمثل هذه الأبحاث التي تتناول مصادرنا الثانوية (كتب العلماء) لا الأولية (القرآن والسنة) بالنقد العلمي المبني على الأدلة الشرعية"9

 

وضرورة مثل هذه الأبحاث تأتي من قطعيات الأدلة الشرعية التي تأمر بالوحدة والتناصح والتعاون على البر والتقوى، وتأتي من مقتضيات عصرنا الذي تكالبت فيه علينا الأمم، فنحن أحوج ما نكون إلى معرفة حق الإسلام لجميع المسلمين، ومعرفة بعضنا معرفة صحيحة سليمة، بدون تزوير ولا مدائح، ولا اختلاق مطاعن، أو مبالغة في ذم أو تجريح، أو مدح وإطراء.

 

هذا الطموح الإسلامي المشروع، يلقى صدمة من واقع بعض الكتابات التي نحسبها دراسات علمية معاصرة، لكنها في جوهرها تحمل الداء القديم، وتجتر أخطاء السابقين، لتنكأ جرح المسلمين وترجع بكل جهود التوحيد والتقريب المباركة إلى نقطة الصفر، تحت شعار الثبات على عقيدة السلف ومحاربة الابتداع في الدين، واتباع نهج السلف الصالحين.

 

"ويكفي أن هناك كتبا وأبحاثا معاصرة، لا زالت على ذم أبي حنيفة وتبديعه وتضليله، ولا زال كثير من الحنابلة المعاصرين على تكفير سائر المسلمين من  الطوائف الأخرى كالشيعة والمعتزلة، بلا تفريق بين المعتدلين والغلاة، وتضليل سائر الأشاعرة والصوفية، وهم معظم المنتسبين لأهل السنة والجماعة اليوم، ولا زال بعضهم على ذم بعض أئمة أهل البيت البريئين من غلو الأتباع، مع المبالغة في مدح ملوك بني أمية وتبرير مظالمهم، وقد ذمتهم الأحاديث الصحيحة والآثار الصحابية والتابعية"10

 

ونتيجة لهذا يبقى الصراع داخل كل مجتمع، ويضمر المسلم حقدا على أخيه المسلم، وتسوء ظنون الجميع ببعضهم، ويشتغلون بالتوافه ويستهلكهم الصراع الفكري والتنازع الاجتماعي، والتشرذم السياسي، وينسون القضية الجوهرية، وهي تبليغ الدين ونشر رايته وتعميم خيره للبشرية، وتغيب عن أذهانهم وضمائرهم حقائق الإسلام الكبرى وأصوله العامة، بعد أن استنـزفت جهودهم مسائل جزئية ونزاعات هامشية، يزعمون أنها هي الدين الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

 

ويذهب بنا الباحث بعيدا في مقدمة كتابه المسهبة عن غايته من هذه القراءة الواعية، وهي فتح حوار اختياري داخلي بين المسلمين، يكون تدريبا على حوارات مفروضة بين المسلمين وغيرهم، سواء من أصحاب الديانات الأخرى، أم من المنتسبين للإسلام ممن استهوتهم حضارة الغرب وفكره، فتعلقوا بها وتنكّروا لأصالتهم ومبادئ دينهم، وانسلخوا من جلدتهم تماما، وغدا بعضهم معاول هدم في صرح الأمة الفكري والثقافي، متخذين من الانغلاق والمصادرة وسوء الظن، وضيق الأفق لدى عقول أبناء الأمة ذريعة وحجة لرمي الإسلام بكل نقيصة، والتفلت من إساره، إلى رحابة الفكر المتحرر القائم على النقد والحوار، كما يدعون. فكان لزاما علينا امتلاك "نظرة استشرافية للمستقبل ونفكر في الإلحاد القادم، وعقيدة إبطال النبوات والتنصير والعَلمانية، فهذا هو الفكر الذي يجب محاصرته وإعداد الدراسات والبحوث حوله لحماية أبنائنا منه"11، وقد استشرت أدواء هذا الفكر في شباب المسلمين، ولم ينج من عدواها حتى البلاد الأكثر التزاما ومحافظة مثل بلاد الحرمين.

 

ويظل جهد الأستاذ الكريم خطوة مباركة، تتلوها خطوات، وقطرة يعقبها غيث يحيي موات القلوب، ويبعث الأمل في النفوس، ويعد بشمس وحدة تشرق على ديار الإسلام بعد طول ظلام، رغم صعوبة المسار، وخطورة الهزات الارتدادية التي توقعها الكاتب وصرح بها، ولكنها لم تَثنِ عزمه، ولم يُؤْثِر السلامة العاجلة، ابتغاء السلامة والنجاة يوم لقاء الله.
 
د. مصطفى بن صالح باجو


1 ينظر  حسن بن فرحان المالكي، قراءة في كتب العقائد، فهرس الكتاب في بدايته.
2 حسن بن فرحان المالكي، قراءة في كتب العقائد، ص10.
3 المرجع نفسه.
4 سورة النساء، آية 135.
5 سورة المائدة، آية 8.
6 المالكي، قراءة في كتب العقائد، ص 11.
7 المرجع السابق، ص 13.
8 المرجع السابق، ص 21.
9 المرجع نفسه.
10 المرجع السابق، ص14
11 المرجع السابق، ص16.

إضافة تعليق